التعليق على تفسير الجلالين : (( إن الذين قالوا ربنا الله ثم استقاموا )) على التوحيد وغيره مما وجب عليهم (( تتنزل عليهم الملئكة )) عند الموت (( أن )) بأن (( لا تخافوا )) من الموت وما بعده (( ولا تحزنوا )) على ما خلفتم من أهل وولد فنحن نخلفكم فيه (( وأبشروا بالجنة التى كنتم توعدون )). حفظ
ثم قال تعالى: (( إِنَّ الَّذِينَ قَالُوا رَبُّنَا اللَّهُ ثُمَّ اسْتَقَامُوا تَتَنَزَّلُ عَلَيْهِمُ الْمَلائِكَةُ أَلَّا تَخَافُوا وَلا تَحْزَنُوا وَأَبْشِرُوا بِالْجَنَّةِ الَّتِي كُنْتُمْ تُوعَدُونَ ))[فصلت:30] (( إن الذين قالوا ربنا الله )) قالوا بألسنتهم وقلوبِهم ولا يكفي مجرد القول باللسان، لأنَّ القولَ باللسان يقَعُ من المنافق ومِن الـمُخْلص لكن المراد القول باللسان والقلب (( قالوا ربنا الله )) وهذا القول الذي قالوه ليس مجرَّد قولٍ على اللسان واعتقاد بالجنان بل هو مسْتَلْزِمٌ لطاعة الله عز وجل ولهذا قال: (( ثم استقاموا )) أي استقاموا على طاعة الله فالإيمان في القلب والاستقامة في الجوارح، لم يكتَفِ اللهُ بالثناء عليهم وبيَانِ جزاءِهم على الإيمان بالقلب بل لا بُدّ مِن الاستقامة ..قال: (( ثم استقاموا )) قال المؤلف: " على التوحيد وغيرِه مما وجَبُ عليهم " صحيح يعني: استقاموا على التوحيد فلا إشرَاك، استقاموا على الإتباع فلا بدعة، استقاموا على الطاعة فلا معصية، استقاموا على الخير فلا شَرّ، وهلم جرًّا، وتأمَّل قوله: (( ثم استقاموا )) أتى بـ(ثم) الدالة على الترتيب بمهلَة يعني: أنَّ إيمانَهم لم يكن إيمانًا خاطِفًا آمنوا ثم زال: لا، إيمان مستقِرّ، لأنهم استقاموا على دينِ الله عز وجل، وقد سُئِل النبي صلى الله عليه وسلم سألَه رجل فقال: يا رسول الله! قل لي في الإسلام قولًا لا أسأل عنه أحدًا غيرَك. يعني قولًا فصلًا فقال له: ( قل آمنْتُ بالله ثم استَقِم ) وهو مأخوذٌ من هذه الآية (( إن الذين قالوا ربنا الله ثم استقاموا )).
وقوله: (( تتنزل عليهم الملائكة )) (تتنَزَّل) مدلولها يخالف مدلول (تَنْزِل)، لأن (تتنزل) فيها زيادة على (تنزل) ما الزيادة؟ التاء فهذه الزيادة تقتَضِي معنيين: المعنى الأول أن تنَزُّلَهم يكون شيئًا فشيئًا (تتنَزَّل) لا تنزِل دفعة واحدة، والثاني: أنَّ التَّنَزُّل أو النُّزُول مُتَكَرِّر (تتنزل عليهم) يعني كلَّما دعَتْ حالُهم إلى تنَزُّل الملائكة عليهم تنَزَّلَتْ عليهم، فصار الفرق الآن بين (تنزل) و(تتنزل) مِن وجهين: الوجه الأول أنَّ (تنزل) تعني النزول مرة واحدة ودفعة واحدة، و(تتنزل) تقتضي تَكرار النزول وأنَّه يكون شيئًا فشيئًا، (( عليهم الملائكة )) سبق الكلام على ذكر الملائكة، وقول المؤلف: " عند الموت " فيه نظر، لأنَّ الله تعالى لم يُقَيِّد ذلك فالظاهر أنَّ الملائكة تتنَزَّل عليهم كلما دعَتِ الحاجة إلى النُّزُول عند الموت وعند الخوف وعند المعارك وفي كلِّ حال تقتَضي أن تنزِلَ الملائكة عليهم، لأنَّ الله أطلَق، (( تتنزل عليهم - ألا )) أي: " بأن (لا تخافُوا) من الموت وما بعدَه (ولا تحزنوا) على ما خلَّفْتم من أهل وولد فنحن نخلفُكم فيهم " نحن نقول: ألا تخافوا من مستقْبَلكم ولا تحزَنُوا على ماضيكم، لأنَّ الإنسان عند الخوف إما أن يخَافَ مِن المستقبل أو يحْزَن على ما مضى فيقول: لو أنِّي فعلت كذا لكان كذا لَمْ يحدث لي الخوف مثلًا، فالملائكة تتنزل عليهم فتقول: لا تخافوا من المستقبل ولا تحزنوا من الماضي، وقَدَّم الخوف من المستقبل، لأنه أهَمُّ مِن الحزن على ما مضى، لأنَّ مستقبَل الإنسان هو الذي يجعَلُه يسير أو يتوَقَّف فلهذا بدأ به قبل ذِكْر الحُزْن، وإذا جعلناه مثلًا مما يدعو إلى التنزل حال الموت فالإنسان عند الموت حالُه تقتَضي أن يُزَاد قوةً ونشاطًا على الإيمان والتوحيد فتتنزل عليهم الملائكة عند الموت أيضًا وتبَشِّرُهم بهذا (( ألا تخافوا ولا تحزنوا وأبشروا بالجنة التي كنتم توعدون )) (أبشروا) هذه هي مِن البَشَارة وهي الإخبار { اجلس يا ولد! هذا أظنه ابن مبارك تعال عند أبوك } (( وأبشروا بالجنة التي كنتم توعدون )) البَشَارة هي الإخبار بما يسُرّ، وسُمِّيَت بَشارَة، لأنه إذا سُرَّ الإنسان ظهرَت علامة السرور على وجهِه فتغيَّرَت بشَرَة الوجه، وقد تُطلَق البشارة على الإخبار بما يسُوء من باب التهكم قال الله تعالى: (( بشِّر المنافقين بأن لهم عذابا أليما )) وقال تعالى: (( فبشرهم بعذاب أليم )) مع أنَّ هذا مما يسوء لكنَّه على سبيل التهكم بهم كما تقول أنت للعاصي: أبشِر بسوء العاقبة أبشِر بالنار وما أشبه ذلك مما يكون تهكُّمًا به، (( أبشروا بالجنة التي كنتم توعدون )) (الجنة) هي الدار التي أعدَّها الله لأوليائِه وفيها -كما في القرآن الكريم- (( لا تعلم نفس ما أُخْفِي لهم من قرة أعين )) وفيها كما جاء في الحديث القدسي ( ما لا عينٌ رأت ولا أذنٌ سمعت ولا خطَر على قلبِ بشر )، (( بالجنة التي كنتم توعدون )) مَن وعدَهم بها؟ وعدَهم الله عز وجل قال الله تعالى: (( وعدَ الله المؤمنين والمؤمنات جناتٍ تجري من تحتها الأنهار ))، (( التي كنتم توعدون ))