فوائد قوله تعالى : (( ولو جعلناه قرآنا أعجميا لقالوا لولا فصلت آياته أأعجمي وعربي قل هو للذين آمنوا هدى وشفاء والذين لا يؤمنون في آذانهم وقر وهو عليهم عمى أولئك ينادون من مكان بعيد )) . حفظ
في هذه الآية الكريمة فوائِد منها حكمة الله عز وجل في كوْن الوحي النَّازل على النبيّ على وُفْق لغة القوم الذين أُرسِل إليهم يؤخذ مِن قوله: (( ولو جعلْناه قرآنًا أعجمِيًّا لقالوا لولا فُصِّلَتْ آياتُه )) إلى آخره، والله تعالى جعله قرآنًا عربيًّا.
ومِن فوائِد هذه الآية الكريمة أنَّ الحُجةَ لا تقُوم حتى يفْهَم الإنسان معنى هذه الحجة وأنَّ مجرَّدَ البلاغ لا يُعَدُّ حجة قائمة حتى يفهمَها مَن بلغَتْه، لأنه لو أَلْقَيْتَ كلامًا عربيًّا بأفصَح ما يكون على قومٍ عجم وهم لا يعرفون مقصودَك أصلًا هل يفْهمون شيئًا؟ وكذلك بالعكس لو جاءَ رجل أعجمي وقام يتكَلَّم بأفصَح ما يكون من لغة العجم ونحن لا نعرِف مرادَه لم نفهَم منه شيئًا ولهذا قال تعالى: (( وما أرسلنا من رسول إلا بلسان قومه ليبين لهم )) فإن قال قائل: يرد على قولكم هذا -وهو أنَّه لابد من فهم الحجة بعد بلوغِها- يرِدُ على ذلك قوله تعالى: (( لأنذرَكم به ومَن بلغ )) ولم يقل: ومن بلغ وفهم. قلنا: هذا مطلق لكن الآيات الأخرى تقَيِّدُه أنه لا بدَّ مِن البيان والمعرفة، وكذلك لو قال قائل: يرِدُ على قولِكم هذا قول النبي صلى الله عليه وسلم: ( والذي نفسي بيده لا يسمَع بي أحدٌ مِن هذه الأمَّة يهُودِيٌّ ولا نصرانِيّ ثم لا يؤمن بما جئْتُ به إلا كان من أصحاب النار ) فقال: (لا يسمع بي) فيقال: نعم لأنه إذا سمِع به يجِبُ عليه أن يبْحَث حتى وإن كان لا يفهَم يجب عليه أن يبحث، أما أن يترُك فهو لا يُعذَر لتفريطِه وتهاونِه، وعلى هذا فلا بد من بلوغ الحجة ولا بد مِن فهمِها، ونحن في الحقيقة لا نتهاون في تكفِير مَن كفَّرَه الله ولا نبالي أن نكَفِّر من كفَّرَه الله لكننا لا نتجَاسَر أن نكَفِّر مَن لم يُكَفِّره الله عز وجل لأنَّ الحكم ليس إلينا الحكم بالتكفير وعدم التكفير إلى الله عز وجل ليس إلينا ولا إلى عواطفنا، وإلا لو كان إلينا أو إلى عواطفنا لكنا نكفِّر مَن كان فاسقًا بل قد نكفر من كان تاركًا للأولى لأن الإنسان لا شكَّ أن معه غيرةً يبغِض بها من خالف الشرع لكن كوننا نحكم عليه بالكفر أو بعدم الكفر ليس إلينا بل هو إلى الله، والخلق عبيد الله عز وجل ليسوا عبيدَنا حتى نحكُم عليهم بما نرى بل نحكُمُ عليهم بمقتضى كلام الله ورسوله، فإذا دار الأمر بين أن نقول: هذا كافر وهو ينتسب إلى الإسلام وبين أن نقول: ليس بكافر أيهما أحوط؟ أن نقول: ليس بكافر، لأنَّ بهذا سالمون لكن لو نكَفِّره ثم بناءً على التكفير نستبيح دمَه وماله المسألة ما هي سهلة ونستبيح ألَّا نصَلِّيَ عليه وألا ندعُو له بالرحمة المسألة صعبة جدًّا، ولهذا خطأُ مَن يتسرَّعون بالتكفير أشدُّ من تهاوُن مَن لا يكفرهم، لِمَا يترتَّب على التكفير من المصائب والبلاء.
ومِن فوائد هذه الآية الكريمة أنَّ التناقض بين الرسول والوحي مستحيل الدليل قوله تعالى: (( ولو جعلناه قرآنا أعجمِيًّا لقالوا لولا فصلت آياته ءأعجمي وعربي )) وهذا مستحيل أن يتناقض الوحي ومَن أُوحِيَ إليه.
ومن فوائد الآية الكريمة أنَّ القرآن يكون لأقوامٍ رحمة ولآخرين نِقمة ويشهد لهذا قولُه عليه الصلاة والسلام: ( القرآن حُجَّة لك أو عليك ) رحمةٌ لِمَن؟ للمؤمنين ونقمَة على الكافرين قال الله تعالى: (( وإنه لحسرة على الكافرين )).
ومن فوائد الآية الكريمة أنه لا يمكن أن يُبتغَى الهدى مِن غير القرآن، لقوله: (( قل هو للذين آمنوا هدى )) فمن ابتغى الهدى من غير القرآن أضلَّه الله قال الله تعالى: (( فمن اتبع هداي فلا يضل ولا يشقى * ومن أعرض عن ذكري فإن له معيشة ضنكًا ونحشره يوم القيامة أعمى )).
ومن فوائد الآية الكريمة أنَّ القرآن شفاءٌ مِن أمراض القلوب وأسقام الأبدان لقوله: (( هدى وشفاء )) وقد فهمنا أثناء التفسير أنَّ الفاتحة رُقْية كذلك أيضًا إذا أردت أن ترْقِي أحدًا فانظُر مع الفاتحة الآيات المناسبة فمثلًا إذا كنتَ تريد أن ترقيَه من السحر فاقرَأْ إضافةً للفاتحة (قل أعوذ برب الفلق) و(قل أعوذ برب الناس)، لأنهما السورتان اللتان رُقِي بهما الرسو صلى الله عليه وسلم، كذلك انظُر إلى آيات السحر التي تُبطِل السحر مثل قوله تعالى عن موسى: (( ما جئتم به السحر إنَّ الله سيبطله إنَّ الله لا يصلح عمل المفسدين )) وأمثال ذلك، إذا كنت تريد أن ترقِيَ مِن مرض اقرَأ الآيات المناسبة مثل (( وإذا مرِضتُ فهو يشفين )) لأنَّ التناسب بين الآيات التي هي الدواء وبين المرض الذي هو الداء لا بد أن يكون أمرًا مهِمًّا يراعيه الإنسان كما يُراعِي ذلك في الأدوية الحِسِّيَّة: الحارّ يُعالَج بايش؟ بالبارد ولهذا قال النبي صلى الله عليه وسلم في الحمى قال: ( إنَّ الحمى من فيح جهنم فأبرِدُوها بالماء ) وقد شهد الأطباء الآن أنَّ البرودة لمن أُصِيب بالحمى من أكبر العلاج حتى كانوا يجعلون المريض أحيانًا إلى جنب مرَاوح المكيِّف من أجل البرودة، وحتى يضعون أحيانًا على المريض بالحمى ثوبًا مبلولًا بالماء من أجل التبريد، نعم.
ومن فوائد الآية الكريمة أنَّ الإنسان كلما كان أقوى إيمانًا كان أهدَى وأشفَى من أين نأخذه؟ (( قل هو للذين آمنوا هدى وشفاء )) وقد أخذنا قاعدة مفيدة مهمة أنَّ كل حكم مرتَّب على وصْف فإنه يقْوى بقوة ذلك الوصف كل حكم معلقه وصف أو مرتَّب على وصْف فإنه يقْوى بقوة ذلك الوصف ويضعَف بضُعف ذلك الوصف. أنتم معنا يا جماعة؟ انتبهوا لهذا.
ومن فوائد هذه الآية الكريمة بلاغة القرآن بتصْوير المعقول بصورة المحسوس، هؤلاء الذين لا يؤمنون لو أنَّك نظرتَ إليهم نظرة حسِّيَّة لم تجِدْ في آذانهم وقرًا، لأنهم يسمعون وقد يكونوا أقوى سمعًا من المؤمنين، ولم تجِد أيضًا أنهم إذا قُرِئ عليهم القرآن عمِيَت أعينُهم كما قال (( وهو عليهم عمى ))، ولم تجد أنهم يُنادَون من مكان بعيد بل تُعرَض عليهم الدعوة وهم إلى جنب الداعي، لكن هذا من بلاغة القرآن أن يُصَوِّر الشيء المعقول بصورة المحسوس، حتى يكون أقربَ إلى الفهم، فهنا صوَّر الله حالَ هؤلاء بأنهم صُمّ وبأنهم عُمْي وبأنهم بعيدون من الداعي.
ثم قال الله تبارك وتعالى