شرح قول الإمام النووي رحمه الله تعالى فيما نقله : " ... وعن زر بن حبيش ، قال : أتيت صفوان بن عسال - رضي الله عنه - أسأله عن المسح على الخفين ، فقال : ما جاء بك يا زر ؟ فقلت : ابتغاء العلم ، فقال : إن الملائكة تضع أجنحتها لطالب العلم رضى بما يطلب . فقلت : إنه قد حك في صدري المسح على الخفين بعد الغائط والبول ، وكنت امرءا من أصحاب النبي - صلى الله عليه وسلم - فجئت أسألك هل سمعته يذكر في ذلك شيئا ؟ قال : نعم ، كان يأمرنا إذا كنا سفرا - أو مسافرين - أن لا ننزع خفافنا ثلاثة أيام ولياليهن إلا من جنابة ، لكن من غائط وبول ونوم . ... " . حفظ
الشيخ : بسم الله الرحمن الرحيم :
هذا الحديث مِن أحاديث التوبة التي ساقها المؤلف -رحمه الله- في بيان متى تنقطع التوبة ، لكنه يشتمل على فوائد :
منها : أن زر بن حبيش أتى إلى صفوان بن عسَّال رضي الله عنه مِن أجل العلم ، يبتغي العلم فقال له صفوان : ( إن الملائكة لتضع أجنحتها لطالب العلم رضاء بما يطلب ) : وهذه فائدة عظيمة ، فائدة عظيمة تدل على فضيلة العلم وطلب العلم ، والمراد به العلم الشرعي أي : علم ما جاء به النبي صلى الله عليه وسلم ، أما علم الدنيا فللدنيا ، لكن طلب العلم الذي جاء به النبي صلى الله عليه وسلم هو الذي فيه الثناء والمدح والحث عليه في القرآن والسنة ، وهو نوع من الجهاد في سبيل الله ، لأن هذا الدين قام بأمرين : قام بالعلم والبيان ، وبالسلاح بالسيف والسنان ، حتى إن بعض العلماء قال إن طلب العلم أفضل من الجهاد في سبيل الله بالسلاح ، لأن حفظ الشريعة إنما يكون بالعلم ، والجهاد في سبيل الله أعني بالسلاح مبني على العلم ، لا يسير المجاهد ولا يقاتل ولا يُحجم ولا يقسم الغنيمة ولا يحكم بالأسرى إلا عن طريق العلم ، فالعلم هو كل شيء ، ولهذا قال الله عز وجل : (( يَرْفَعِ اللَّهُ الَّذِينَ آمَنُوا مِنْكُمْ وَالَّذِينَ أُوتُوا الْعِلْمَ دَرَجَاتٍ )) : ووضع الملائكة أجنحتها لطالب العلم رضى بما يطلب ، واحتراما له وتعظيما له ، ولا يرد على هذا أن يقول القائل : أنا لا أُحس بذلك ، لأنه إذا صح الخبر عن النبي صلى الله عليه وسلم فإنه كالمشاهد عيانا ، أرأيت قوله صلى الله عليه وسلم : ( إن الله ينزل إلى السماء الدنيا حين يبقى ثلث الليل الآخر فيقول : مَن يدعوني فأستجيبَ له من يسألني فأعطيه ، من يستغفرني فأغفرَ له ) : نحن لا نسمع هذا الكلام من الله عز وجل ، لكن لما صح عن نبينا صلى الله عليه وسلم صار كأننا نسمعه ، ولذلك يجب علينا أن نؤمن بما قال النبي صلى الله عليه وسلم وبما صح عنه مما يذكر في أمور الغيب ، وأن نكون متيقين لها كأنما نشاهدها بأعيننا ونسمعها بآذاننا .
ثم ذكر زر لصفوان بن عسَّال أنه حكَّ في صدره المسح على الخفين بعد البول والغائط ، يعني أن الله تعالى ذكر في القرآن : (( يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا إِذَا قُمْتُمْ إِلَى الصَّلاةِ فَاغْسِلُوا وُجُوهَكُمْ وَأَيْدِيَكُمْ إِلَى الْمَرَافِقِ وَامْسَحُوا بِرُؤُوسِكُمْ وَأَرْجُلَكُمْ إِلَى الْكَعْبَيْنِ )) فيقول : إنه حكَّ في صدري يعني : صار عندي توقف وشك في المسح على الخفين بعد البول والغائط ، هل هذا جائز أو لا ؟ فبين له صفوان بن عسَال رضي الله عنه أن ذلك جائز : ( لأن النبي صلى الله عليه وسلم أمرهم إذا كانوا سَفْرا أو مسافرين ألا ينزعوا خفافهم إلا من جنابة ولكن من غائط وبول ونوم ) ، فدل هذا على جواز المسح على الخفين ، بل إن المسح على الخفين أفضل إذا كان الإنسان لابساً لهما ، وقد ثبت في * الصحيحين * من حديث المغيرة بن شعبة رضي الله عنه : ( أنه كان مع النبي صلى الله عليه وسلم في سفر ، فتوضأ النبي صلى الله عليه وسلم ، فأهوى المغيرة لينزع خفيه ، فقال : دعهما فإني أدخلتهما طاهرتين فمسح عليهما ) ، ففي هذا دليل واضح على أن الإنسان الذي عليه جوارب أو عليه خُفان أن الأفضل أن يمسح عليهما ولا يغسل رجليه ، وسنتكلم إن شاء الله في الدرس القادم على شروط المسح على الخفين ، والمدة التي حددها النبي صلى الله عليه وسلم للمسح عليهما ، والله أعلم .
سبق الكلام على أول هذا الحديث وبيان فضل السعي والمشي إلى طلب العلم ، وأن الملائكة تضع أجنحتها لطالب العلم رضاء بما يطلب .
وسبق لنا أيضا أنه ينبغي للإنسان إذا أشكل عليه شيء أن يسأل ويبحث عمن هو أعلم بهذا الشيء ، حتى لا يبقى في قلبه حرج مما سمع ، لأن بعض الناس يسمع الشيء مِن الأحكام الشرعية ويكون في نفسه حرج ويبقى متشككا مترددا لا يسأل أحدا يزيل عنه هذه الشبهة ، وهذا خطأ ، بل الإنسان ينبغي له أن يسأل حتى يصل إلى أمر يطمئن إليه ، ولا يبقى عنده قلق ، فهذا زر بن حُبيش -رحمه الله- سأل صفوان بن عسال رضي الله عنه عن المسح على الخفين ، وهل عنده شيء عن رسول الله صلى الله عليه وسلم في ذلك ؟ فقال : نعم : ( كان يأمرنا إذا كنا سَفْرا أو مسافرين ألا ننزع خفافنا إلا من جنابة ، ولكن من غائط وبول ونوم ) : فهذا الحديث فيه دليل على ثبوت المسح على الخفين ، وقد تواترت الأحاديث عن النبي صلى الله عليه وسلم في ذلك ، وأخذ بهذا أهل السنة ، حتى إن بعض أهل العلم الذين صنفوا في كتب العقائد ذكروا المسح على الخفين في كتاب العقائد ، وذلك لأن الرافضة خالفوا في ذلك فلم يثبتوا المسح على الخفين وأنكروه ، والعجب أن ممن روى المسح على الخفين علي بن أبي طالب رضي الله عنه ، ومع ذلك هم ينكرونه ولا يقولون به ، فكان المسح على الخفين مِن شعار أهل السنة ، ومن الأمور المتواترة عندهم ، التي ليس عندهم فيها شك عن رسول الله صلى الله عليه وسلم ، قال الإمام أحمد : " ليس في قلبي مِن المسح شك أو قال : شيء فيه أربعون حديثا عن النبي صلى الله عليه وسلم وأصحابه " ، ولكن لابد من شروط لجواز المسح على الخفين :
الشرط الأول : أن يضعهما على طهارة ، أن يضعهما على طهارة ، لأن النبي صلى الله عليه وسلم قال للمغيرة بن شعبة رضي الله عنه حينما أراد أن ينزع خفي النبي صلى الله عليه وسلم ، قال : ( دعهما فإني أدخلتهما طاهرتين فمسح عليهما ) ، ولا فرق بين أن تكون هذه الطهارة قد قد غسل فيها الرجل أو مسح فيها على خف سابق ، فمثلا لو توضأ وضوءا كاملا وغسل رجليه ثم لبس الجوارب يعني الشراب أو الخفين ، فهنا لبسهما على طهارة ، كذلك لو كان قد لبس جوارب مِن قبل ومسح عليهم ثم احتاج إلى زيادة جورب ولبسه على الجورب الأول الذي مسحه وهو على طهارة ، فإنه يمسح على الثاني لكن يكون ابتداء المدة مِن المسح على الأول لا من المسح على الثاني ، هذا هو القول الصحيح : أنه إذا لبس خفا على خف ممسوح فإنه يمسح على الأعلى لكن يبني على مدة المسح على الأول ، لابد أن يلبسهما على طهارة ، ولابد أن تكون الطهارة بالماء ، فلو لبسهما على طهارة تيمم فإنه لا يمسح عليهما ، مثل رجل مسافر ليس معه ماء فتيمم ولبس الخفين على طهارة تيمم ، ثم بعد ذلك وجد الماء ، وأراد أن يتوضأ ، ففي هذه الحال لابد أن يخلع الخفين ويغسل قدميه عند الوضوء ، ولا يجوز المسح عليهما في هذه الحال ، لأنه لم يلبسهما على طهارة غسل بها الرجل ، فإن التيمم يتعلق بعضوين فقط وهما : الوجه والكفان .
الشرط الثاني : أن يكون المسح عليهما في الحدث الأصغر ، ولهذا قال صفوان بن عسَّال : ( إلا من جنابة ولكن مِن غائط وبول ونوم ) : فإذا صار على الإنسان جنابة فإنه لا يُجزئ أن يمسح على الجوربين أو الخفين ، بل لابد من نزعهما وغسل القدمين ، وذلك لأن الطهارة الكبرى ليس فيها مسح إلا للضرورة في الجبيرة ، ولهذا لا يُسمح فيها الرأس ، لابد من غسل الرأس مع أنه في الحدث الأصغر يمسح ، لكنَّ الجنابة طهارتها أوكد وحدثها أكبر ، فلابد من الغسل ولا يمسح فيها على الخف لهذا الحديث ولأن المعنى والقياس يقتضي ذلك .
الشرط الثالث : أن يكون المسح في المدة التي حددها النبي صلى الله عليه وسلم ، وهي : يوم وليلة للمقيم ، وثلاثة أيام بلياليها للمسافر ، كما صح ذلك أيضا من حديث علي بن أبي طالب رضي الله عنه في * صحيح مسلم * قال : ( جعل النبيُ صلى الله عليه وسلم للمقيم يوما وليلة ، وللمسافر ثلاثة أيام بلياليها ) يعني : في المسح على الخفين ، فإذا انتهت المدة فلا مسح لابد أن يخلع الجوربين أو الخفين ثم يغسل القدمين ، ولكن إذا انتهت المدة وأنت على طهارة فاستمر على طهارتك ، لا تنتقض الطهارة ، ولكن إذا أردت أن تتوضأ بعد انتهاء المدة فلابد من غسل القدمين ، والله الموفق .
بسم الله الرحمن الرحيم تقدم الكلام على أول هذا الحديث ، وأشرنا إلى ما فيه من الأحكام الفقهية فيما يتعلق بالمسح على الخفين .