شرح قول الإمام النووي رحمه الله تعالى فيما نقله : " ... وعن صهيب رضي الله عنه أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال ( كان ملك فيمن قبلكم وكان له ساحر فلما كبر قال للملك إني قد كبرت فابعث إليّ غلاما أعلمه السحر فبعث إليه غلاما يعلمه وكان في طريقه إذا سلك راهب فقعد إليه وسمع كلامه فأعجبه وكان إذا أتى الساحر مر بالراهب وقعد إليه فإذا أتى الساحر ضربه فشكا ذلك إلى الراهب فقال إذا خشيت الساحر فقل حبسني أهلي وإذا خشيت أهلك فقل حبسني الساحر فبينما هو على ذلك إذ أتى على دابة عظيمة قد حبست الناس فقال اليوم أعلم الساحر أفضل أم الراهب أفضل . فأخذ حجراً فقال اللهم إن كان أمر الراهب أحب إليك من أمر الساحر فاقتل هذه الدابة حتى يمضي الناس فرماها فقتلها ومضى الناس فأتى الراهب فأخبره فقال له الراهب أي بني أنت اليوم أفضل مني قد بلغ من أمرك ما أرى وإنك ستبتلى فإن ابتليت فلا تدل علي وكان الغلام يبرئ الأكمه والأبرص ويداوي الناس من سائر الأدواء ... " . حفظ
الشيخ : بسم الله الرحمن الرحيم :
هذا الحديث الذي ذكره المؤلف -رحمه الله- في باب الصبر فيه قصة عجيبة ، وهي أن رجلا من الملوك فيمن سبق كان عنده ساحر ، هذا الساحر اتخذه الملك بِطانة مِن أجل أن يستخدمه في مصالحه ، ولو على حساب الدين ، لأن هذا الملك لا يهتم إلا بما فيه مصلحته ، وهو ملك مستبِد ، قد عبّد الناس لنفسه كما سيأتي إن شاء الله في آخر الحديث ، هذا الساحر لما كبر قال للملك : إني قد كبرت ، فابعث إلي غلاما أعلمه السحر ، واختار الغلام ، لأن الغلام أقبل للتعليم ، ولأن التعليم للغلام الشاب هو الذي يبقى ولا يُنسى ، ولهذا كان التعلم في الصغر خيرا بكثير من التعلم في الكبر وفي كل خير ، لكن التعلم في الصغر فيه فائدتان عظيمتان : الفائدة الأولى : أن الشاب في الغالب أسرع حفظا من الكبير ، لأن الشاب فارغ البال ، ليس عنده مشاكل توجب انشغالاً . وثانيا : أن ما يحفظه الشاب يبقى ، وما يحفظه الكبير يُنسى ، ولهذا كان من الحكمة الشائعة بين الناس : " أن العلم في الصغر كالنقش في الحجر " ، لا يزول .
وفيه فائدة ثالثة : وهي أن الشاب إذا ثَقِف العلم من أول الأمر صار العلم كالسجية له والطبيعة له ، وصار كأنه غريزة قد شب عليها فيشيب عليها ، فهذا الساحر ساحر كبير قد تقدمت به السن وجرب الحياة ، وعرف الأشياء فطلب من الملك أن يختار له شابا غلاما يعلمه السحر ، فبعث إليه غلاما فعلمه ما علمه ، ولكن الله تعالى قد أراد لهذا الغلام خيرا ، مَرَّ هذا الغلام يوما من الأيام براهب ، فسمع منه ، فأعجبه كلامه ، فأعجمه كلامه لأن هذا الراهب يعني العابد عابد لله عز وجل لا يتكلم إلا بالخير ، وقد يكون راهبا عالما لكن تغلب عليه العبادة فسمي بما يغلب عليه من الرهبانية ، المهم أنه أعجبه ، وصار إذا خرج هذا الغلام مِن أهله جلس عند الراهب فتأخر على الساحر ، فجعل الساحر يضربه ليش تأخرت ؟ فشكى الغلامُ إلى الراهب ما يجده من الساحر من الضرب إذا تأخر ، فلقنه الراهب أمرًا يتخلص به ، قال : إذا ذهبت إلى الراهب وخشيت أن يعاقبك فقل : إن أهلي حبسوني ، يعني تأخر عند أهله ، وإذا أتيت لأهلك فقل : إن الساحر أخرني ، حتى تنجو من هذا ومن هذا ، وكأن الراهب والله أعلم أمره بذلك مع أنه كذب : لعله رأى أن المصلحة في هذا تربو على مفسدة الكذب ، مع أنه يمكن أن يتأول ، ففعل ، فصار الغلام يأتي إلى الراهب ويسمع منه ثم يذهب إلى الساحر ، فإذا أراد أن يعاقبه على تأخره قال : أهلي أخروني ، وإذا رجع إلى أهله وتأخر عند الراهب قال : إن الساحر أخرني ، فمرَّ ذات يوم بدابة عظيمة ، ولم يعين في الحديث ما هذه الدابة ، قد حبست الناس عن التجاوز ، لا يستطيعون أن يتجاوزوها ، فأراد هذا الغلام أن يختبر : هل الراهب خير له أم الساحر ؟! فأخذ حجرا ودعا الله سبحانه وتعالى : إن كان أمر الراهب خيرا أن يقتل هذا الحجر هذه الدابة ، فرمى بالحجر فقتل الدابة ، فمشى الناس ، فعرف الغلام أن أمر الراهب خير من أمر الساحر ، وهذا أمرٌ لا شك فيه ، لأن الساحر إما معتدٍ ظالم ، وإما كافر مشرك ، فإن كان يستعين على سحره بالشياطين يتقرب إليهم ويعبدهم ويستغيث بهم فهو كافر مشرك ، وإن كان لا يفعل هذا لكن يعتدي على الناس بأدوية فيها سحر ، فهذا ظالم معتدي ، أما الراهب فإن كان يعبد الله على بصيرة فهو مهتدي ، وإن كان عند شيء من الجهل والضلال فنيته طيبة ، وإن كان عمله سيئا .
المهم أن هذا الغلام أخبر الراهب بما جرى ، فقال له الراهب : أنت اليوم خير مني : وذلك لأن هذا الغلام دعا الله فاستجاب الله له ، وهذا من نعمة الله على العبد ، أن الإنسان إذا شك في الأمر ثم طلب من الله آية تبين له شأن هذا الأمر فبينه الله له ، فإن هذا من نعمة الله عليه .
ومن ثَمَّ شرعت الاستخارة للإنسان إذا هم بالأمر وأشكل عليه هل في إقدامه أو في إحجامه خير ، فإنه يستخير الله ، وإذا استخار الله بصدق وإيمان فإن الله تعالى يعطيه ما يستدل به على أن الخير في الإقدام أو في الإحجام إما بشيء يلقيه في قلبه ينشرح صدره لهذا أو لهذا ، وإما برؤيا يراها في المنام ، وإما بمشورة أحد من الناس ، وإما بغير ذلك .
المهم أن هذا الغلام كان أيضا من كراماته أنه يُبرئ الأكمه والأبرص ، يعني أنه يدعو لهم فيبرؤون وهذا من كرامات الله له ، وليس كقصة عيسى بن مريم يمسح صاحب العاهة فيبرأ ، بل هذا يدعو الله فيستجيبُ الله تعالى دعاءه ، فيبرئ بدعائه الأكمه والأبرص ، وقد أخبره ، الراهب أخبر هذا الغلام بأنه سيبتلى ، يعني سيكون له محنة واختبار ، وطلب منه ألا يخبر به إن هو ابتلي بشيء ، وسيأتي إن شاء الله بقية الحديث .
القارئ : " ( وكان الغلام يبرئ الأكمه والأبرص ويداوي الناس من سائر الأدواء ، فسمع جَليس للمَلِك كان قد عمي فأتاه بهدايا كثيرة فقال : ما ههنا لك أجمع إن أنت شفيتني ، فقال : إني لا أشفي أحداً إنما يشفي الله تعالى ، فإن آمنت بالله تعالى دعوتُ الله فشفاك ، فآمنَ بالله تعالى فشفاه الله تعالى ، فأتى الملكَ فجلس إليه كما كان يجلس ، فقال له الملك : من ردَّ عليك بصرك ؟ قال : ربي ، قال : أولك رب غيري ؟ قال : ربي وربك الله ، فأخذه فلم يزل يعذبه حتى دل على الغلام ، فجيء بالغلام فقال له الملك : أي بُني قد بلغ من سحرك ما تبرئ الأكمه والبرص وتفعل وتفعل ، فقال : إني لا أشفي أحداً إنما يشفي الله تعالى ، فأخذه فلم يزل يعذبه حتى دلَّ على الراهب ، فجيء بالراهب فقيل له : ارجع عن دينك فأبى فدعا بالمنشار ، فوضع المنشار في مَفرق رأسه فشقه حتى وقع شقاه ، ثم جيء بجليس الملك فقيل له : ارجع عن دينك ، فأبى فوضع المنشار في مَفرِق رأسه فشقه به حتى وقع شقاه ، ثم جيء بالغلام ) " .
هذا الحديث الذي ذكره المؤلف -رحمه الله- في باب الصبر فيه قصة عجيبة ، وهي أن رجلا من الملوك فيمن سبق كان عنده ساحر ، هذا الساحر اتخذه الملك بِطانة مِن أجل أن يستخدمه في مصالحه ، ولو على حساب الدين ، لأن هذا الملك لا يهتم إلا بما فيه مصلحته ، وهو ملك مستبِد ، قد عبّد الناس لنفسه كما سيأتي إن شاء الله في آخر الحديث ، هذا الساحر لما كبر قال للملك : إني قد كبرت ، فابعث إلي غلاما أعلمه السحر ، واختار الغلام ، لأن الغلام أقبل للتعليم ، ولأن التعليم للغلام الشاب هو الذي يبقى ولا يُنسى ، ولهذا كان التعلم في الصغر خيرا بكثير من التعلم في الكبر وفي كل خير ، لكن التعلم في الصغر فيه فائدتان عظيمتان : الفائدة الأولى : أن الشاب في الغالب أسرع حفظا من الكبير ، لأن الشاب فارغ البال ، ليس عنده مشاكل توجب انشغالاً . وثانيا : أن ما يحفظه الشاب يبقى ، وما يحفظه الكبير يُنسى ، ولهذا كان من الحكمة الشائعة بين الناس : " أن العلم في الصغر كالنقش في الحجر " ، لا يزول .
وفيه فائدة ثالثة : وهي أن الشاب إذا ثَقِف العلم من أول الأمر صار العلم كالسجية له والطبيعة له ، وصار كأنه غريزة قد شب عليها فيشيب عليها ، فهذا الساحر ساحر كبير قد تقدمت به السن وجرب الحياة ، وعرف الأشياء فطلب من الملك أن يختار له شابا غلاما يعلمه السحر ، فبعث إليه غلاما فعلمه ما علمه ، ولكن الله تعالى قد أراد لهذا الغلام خيرا ، مَرَّ هذا الغلام يوما من الأيام براهب ، فسمع منه ، فأعجبه كلامه ، فأعجمه كلامه لأن هذا الراهب يعني العابد عابد لله عز وجل لا يتكلم إلا بالخير ، وقد يكون راهبا عالما لكن تغلب عليه العبادة فسمي بما يغلب عليه من الرهبانية ، المهم أنه أعجبه ، وصار إذا خرج هذا الغلام مِن أهله جلس عند الراهب فتأخر على الساحر ، فجعل الساحر يضربه ليش تأخرت ؟ فشكى الغلامُ إلى الراهب ما يجده من الساحر من الضرب إذا تأخر ، فلقنه الراهب أمرًا يتخلص به ، قال : إذا ذهبت إلى الراهب وخشيت أن يعاقبك فقل : إن أهلي حبسوني ، يعني تأخر عند أهله ، وإذا أتيت لأهلك فقل : إن الساحر أخرني ، حتى تنجو من هذا ومن هذا ، وكأن الراهب والله أعلم أمره بذلك مع أنه كذب : لعله رأى أن المصلحة في هذا تربو على مفسدة الكذب ، مع أنه يمكن أن يتأول ، ففعل ، فصار الغلام يأتي إلى الراهب ويسمع منه ثم يذهب إلى الساحر ، فإذا أراد أن يعاقبه على تأخره قال : أهلي أخروني ، وإذا رجع إلى أهله وتأخر عند الراهب قال : إن الساحر أخرني ، فمرَّ ذات يوم بدابة عظيمة ، ولم يعين في الحديث ما هذه الدابة ، قد حبست الناس عن التجاوز ، لا يستطيعون أن يتجاوزوها ، فأراد هذا الغلام أن يختبر : هل الراهب خير له أم الساحر ؟! فأخذ حجرا ودعا الله سبحانه وتعالى : إن كان أمر الراهب خيرا أن يقتل هذا الحجر هذه الدابة ، فرمى بالحجر فقتل الدابة ، فمشى الناس ، فعرف الغلام أن أمر الراهب خير من أمر الساحر ، وهذا أمرٌ لا شك فيه ، لأن الساحر إما معتدٍ ظالم ، وإما كافر مشرك ، فإن كان يستعين على سحره بالشياطين يتقرب إليهم ويعبدهم ويستغيث بهم فهو كافر مشرك ، وإن كان لا يفعل هذا لكن يعتدي على الناس بأدوية فيها سحر ، فهذا ظالم معتدي ، أما الراهب فإن كان يعبد الله على بصيرة فهو مهتدي ، وإن كان عند شيء من الجهل والضلال فنيته طيبة ، وإن كان عمله سيئا .
المهم أن هذا الغلام أخبر الراهب بما جرى ، فقال له الراهب : أنت اليوم خير مني : وذلك لأن هذا الغلام دعا الله فاستجاب الله له ، وهذا من نعمة الله على العبد ، أن الإنسان إذا شك في الأمر ثم طلب من الله آية تبين له شأن هذا الأمر فبينه الله له ، فإن هذا من نعمة الله عليه .
ومن ثَمَّ شرعت الاستخارة للإنسان إذا هم بالأمر وأشكل عليه هل في إقدامه أو في إحجامه خير ، فإنه يستخير الله ، وإذا استخار الله بصدق وإيمان فإن الله تعالى يعطيه ما يستدل به على أن الخير في الإقدام أو في الإحجام إما بشيء يلقيه في قلبه ينشرح صدره لهذا أو لهذا ، وإما برؤيا يراها في المنام ، وإما بمشورة أحد من الناس ، وإما بغير ذلك .
المهم أن هذا الغلام كان أيضا من كراماته أنه يُبرئ الأكمه والأبرص ، يعني أنه يدعو لهم فيبرؤون وهذا من كرامات الله له ، وليس كقصة عيسى بن مريم يمسح صاحب العاهة فيبرأ ، بل هذا يدعو الله فيستجيبُ الله تعالى دعاءه ، فيبرئ بدعائه الأكمه والأبرص ، وقد أخبره ، الراهب أخبر هذا الغلام بأنه سيبتلى ، يعني سيكون له محنة واختبار ، وطلب منه ألا يخبر به إن هو ابتلي بشيء ، وسيأتي إن شاء الله بقية الحديث .
القارئ : " ( وكان الغلام يبرئ الأكمه والأبرص ويداوي الناس من سائر الأدواء ، فسمع جَليس للمَلِك كان قد عمي فأتاه بهدايا كثيرة فقال : ما ههنا لك أجمع إن أنت شفيتني ، فقال : إني لا أشفي أحداً إنما يشفي الله تعالى ، فإن آمنت بالله تعالى دعوتُ الله فشفاك ، فآمنَ بالله تعالى فشفاه الله تعالى ، فأتى الملكَ فجلس إليه كما كان يجلس ، فقال له الملك : من ردَّ عليك بصرك ؟ قال : ربي ، قال : أولك رب غيري ؟ قال : ربي وربك الله ، فأخذه فلم يزل يعذبه حتى دل على الغلام ، فجيء بالغلام فقال له الملك : أي بُني قد بلغ من سحرك ما تبرئ الأكمه والبرص وتفعل وتفعل ، فقال : إني لا أشفي أحداً إنما يشفي الله تعالى ، فأخذه فلم يزل يعذبه حتى دلَّ على الراهب ، فجيء بالراهب فقيل له : ارجع عن دينك فأبى فدعا بالمنشار ، فوضع المنشار في مَفرق رأسه فشقه حتى وقع شقاه ، ثم جيء بجليس الملك فقيل له : ارجع عن دينك ، فأبى فوضع المنشار في مَفرِق رأسه فشقه به حتى وقع شقاه ، ثم جيء بالغلام ) " .