شرح قول الإمام النووي رحمه الله تعالى فيما نقله : " ... وعن عطاء بن أبي رباح قال: قال لي ابن عباس رضي الله عنهما ألا أريك امرأة من أهل الجنة فقلت بلى قال هذه المرأة السوداء أتت النبي صلى الله عليه وسلم فقالت إني أصرع وإني أتكشف فادع الله تعالى لي قال ( إن شئت صبرت ولك الجنة وإن شئت دعوت الله تعالى أن يعافيك ) فقالت أصبر فقالت إني أتكشف فادع الله أن لا أتكشف فدعا لها متفق عليه ... " . حفظ
الشيخ : بسم الله الرحمن الرحيم :
نحن مازلنا مع المؤلف -رحمه الله- في باب الصبر ، الصبر على أقدار الله سبحانه وتعالى وقد سبق أنه ثلاثة أقسام : من ذلك ، أي من الصبر على أقدار الله ما نقله المؤلف -رحمه الله- عن عطاء بن أبي رباح -رحمه الله- أن ابن عباس رضي الله عنهما قال له : ( ألا أريك امرأة من أهل الجنة ؟ ) : يعرض عليه أن يريه امرأة من أهل الجنة ، وذلك لأن أهل الجنة ينقسمون إلى قسمين : قسم نشهد لهم بالجنة بأوصافهم ، وقسم نشهد لهم بالجنة بأعيانهم ، أما الذين نشهد لهم بالجنة بأوصافهم فكل مؤمن كل متقي فإنا نشهد له بأنه من أهل الجنة ، كما قال الله سبحانه وتعالى في الجنة : (( أعدت للمتقين )) ، وقال تعالى : (( إِنَّ الَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحَاتِ أُولَئِكَ هُمْ خَيْرُ الْبَرِيَّةِ * جَزَاؤُهُمْ عِنْدَ رَبِّهِمْ جَنَّاتُ عَدْنٍ تَجْرِي مِنْ تَحْتِهَا الْأَنْهَارُ خَالِدِينَ فِيهَا أَبَداً )) : فكل مؤمن متقٍ يعمل الصالحات فإننا نشهد بأنه من أهل الجنة ، لكن ما نقول هو فلان وفلان ، لأننا لا ندري ماذا يختم له ، ولا ندري هل باطنه كظاهره ، فلذلك لا نشهد له بعينه ، نقول مثلا : إذا مات رجل مشهود له بالخير قلنا : نرجو أن يكون من أهل الجنة لكن ما نشهد أنه من أهل الجنة ، قسم آخر نشهد له بعينه وهم الذين شهد لهم النبي صلى الله عليه وسلم بأنهم في الجنة ، مثل : العشرة المبشرين بالجنة : أبي بكر عمر عثمان وعلي سعيد بن زيد سعد بن أبي وقاص عبد الرحمن بن عوف طلحة بن عبيد الله أبو عبيدة عامر بن الجراح الزبير بن العوام ، ومثل ثابت بن قيس بن شماس ، ومثل سعد بن معاذ رضي الله عنه ، عبد الله بن سلام ، بلال بن أبي رباح وغيرهم ممن عَيَّنهم الرسول عليه الصلاة والسلام ، هؤلاء نشهد لهم بأعيانهم ، نقول : نشهد بأن أبا بكر في الجنة ، نشهد بأن عمر في الجنة ، نشهد بأن عثمان في الجنة ، نشهد بأن علي بن أبي طالب في الجنة ، وهكذا ، من ذلك هذه المرأة التي قال ابن عباس لتلميذه عطاء بن أبي رباح : ( ألا أريك امرأة من أهل الجنة قلت : بلى قال : هذه المرأة السوداء ) : امرأة سوداء لا قيمة لها في المجتمع ، كانت تصرع وتنكشف ، فأخبرت النبي صلى الله عليه وسلم وسألته أن يدعو الله لها ، فقال لها : ( إن شئتِ دعوت الله لك ، وإن شئت صبرت ولك الجنة ، وإن شئت صبرت ولك الجنة ، قالت : أصبر ) ، وإن كانت تتألم وتتأذى من الصرع لكنها صبرت من أجل أن تكون من أهل الجنة ، ولكنها قالت : ( يا رسول الله ! إني أتكشف ، فادع الله ألا أتكشف ، فدعا الله ألا تتكشف فصارت تصرع ولا تتكشف ) : والصرع نعوذ بالله منه ، الصرع نوعان : صرع بسبب تشنج الأعصاب وهذا مرض عضوي يمكن أن يعالج من قبل الأطباء الماديين ، بإعطاء العقاقير التي تسكنه أو تزيله بالمرة ، وقسم آخر : بسبب الشياطين والجن ، يتسلط الجني على الإنسي فيصرعه يدخل فيه يضرب به على الأرض ، ويُغمى عليه من شدة الصرع ولا يحس ، ويتلبس الشيطان أو الجني بنفس الإنسان ، ويبدأ يتكلم على لسانه ، يتكلم على لسان الإنسي ، الذي يسمع الكلام يقول الإنسي هو الذي يتكلم ، لكنه الجني ، ولهذا تجد في كلامه بعض الاختلاف ، لا يكون ككلامه وهو صاحي لأنه يتغير بسبب نطق الجني ، هذا النوع مِن الصرع نسأل الله أن يعيذنا وإياكم منه ومن غيره من الآفات ، هذا النوع علاجه بالقراءة ، بالقراءة من أهل العلم والخير ، يقرؤون على هذا المصروع ، أحيانا يخاطبهم الجني ويتكلم معهم ويبين السبب الذي جعله يصرع هذا الإنسي ، وأحيانا ما يتكلم ، وقد ثبت هذا : أعني صرعَ الجني للإنسي بالقرآن والسنة والواقع ، ففي القرآن قال الله تعالى : (( الَّذِينَ يَأْكُلُونَ الرِّبا لا يَقُومُونَ إِلَّا كَمَا يَقُومُ الَّذِي يَتَخَبَّطُهُ الشَّيْطَانُ مِنَ الْمَسِّ )) : وهذا دليل على أن الشيطان يتخبط الإنسان من المس والصرع ، وفي السنة روى الإمام أحمد في * مسنده * : ( أن النبي صلى الله عليه وسلم كان في سفر من أسفاره فمر بامرأة معها صبي يصرع ، فأتت به إلى النبي عليه الصلاة والسلام وخاطب الجني ، وتكلم معه وخرج الجني ، فأعطته أمُ الصبي أعطت النبي صلى الله عليه وسلم هدية على ذلك ) ، وكذلك أيضا كان أهل العلم يخاطبون الجني في المصروع ويتكلمون معه ، ومنهم شيخ الإسلام ابن تيمية رحمه الله ، ذكر ابن القيم وهو تلميذه ، تلميذ شيخ الإسلام ابن تيمية : " أنه جيء إليه برجل مصروع ، إلى شيخ الإسلام ابن تيمية ، فجعل يقرأ عليه ويخاطبه ويقول له : اتق الله ، وهي امرأة : اتقي الله اخرجي ، فتقول له : أنا أريد هذا الرجل ، أحبه ، فقال لها شيخ الإسلام : لكنه لا يحبك اخرجي ، قالت : إني أريد أن أحج به ، قال : هو لا يريد أن تحجي به اخرجي ، فأبت فجعل يقرأ عليها ويضرب الرجل ، يضربه ضربا عظيما حتى إن يد شيخ الإسلام يقول : أوجعته من شدة الضرب ، فقالت الجنية : أنا أخرج كرامة للشيخ . قال : لا تخرجي كرامة لي ، اخرجي طاعة لله ورسوله ، فما زال بها حتى خرجت ، لما خرجت استيقظ الرجل ، فقال : ما الذي جاء بي إلى حضرة الشيخ ؟ شو الذي جابني لك ؟ مكان شيخ الإسلام ابن تيمية ، قالوا : سبحان الله أما أحسست بالضرب الذي كان يضربك أشد ما يكون ؟ قال : ما أحسست بالضرب ولا أحسست بشيء " ، والأمثلة على هذا كثيرة ، هذا النوع من الصرع له علاج يدافعه ، وله علاج يرفعه علاجه نوعان : دفع ، ورفع ، أما دفعه فأن يحرص الإنسان على الأوراد الشرعية الصباحية والمسائية ، وهي معروفة في كتب أهل العلم منها : آية الكرسي ، فإن من قرأها في ليلة لم يزل عليه من الله حافظ ولا يقربه شيطان حتى يصبح ، ومنها : (( قل هو الله أحد )) ، (( قل أعوذ برب الفلق )) ، (( قل أعوذ برب الناس )) ، ومنها أحاديث وردت عن النبي عليه الصلاة والسلام ، فليحرص الإنسان عليها صباحا ومساء فإن ذلك من أسباب دفع أذية الجن ، وأما الرفع فهو إذا وقع في الإنسان فإنه يقرأ عليه آيات من القرآن تخويف وتحذير واستعاذة بالله عز وجل حتى يخرج ، الشاهد من هذا الحديث قول النبي صلى الله عليه وسلم لهذه المرأة : ( إن شئت صبرت ولك الجنة فقالت : أصبر ) : ففي هذا دليل على فضيلة الصبر ، وأنه سبب لدخول الجنة ، والله الموفق .