شرح قول الإمام النووي رحمه الله تعالى فيما نقله : " ... وعن ابن مسعود رضي الله عنه أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال ( إنها ستكون بعدي أثرة وأمور تنكرونها قالوا يا رسول الله فما تأمرنا قال تؤدون الحق الذي عليكم وتسألون الله الذي لكم ) متفق عليه والأثرة الانفراد بالشيء عمن له فيه حق . وعن أبي يحيى أسيد بن حضير رضي الله عنه أن رجلاً من الأنصار قال يا رسول الله ألا تستعملني كما استعملت فلانا فقال ( إنكم ستلقون بعدي أثرة فاصبروا حتى تلقوني على الحوض ) متفق عليه ... " . حفظ
الشيخ : بسم الله الرحمن الرحيم :
هذان الحديثان : حديث عبد الله بن مسعود رضي الله عنه ، وحديث أُسيد بن حُضير ذكرهما المؤلف في باب الصبر ، لأنهما يدلان على ذلك ، أما حديث عبد الله بن مسعود : فأخبر رضي الله عنه أن النبي صلى الله عليه وسلم قال : ( إنها ستكون بعدي أثرة ) : الأثرة : يعني الاستئثار بالشيء عمن له فيه حق ، يريد بذلك صلى الله عليه وسلم أنه سيتولى على المسلمين ولاةً يستأثرون بأموال المسلمين ، يصرفونها كما شاؤوا ويمنعون المسلمين حقهم فيها ، وهذه أثرة وظلم مِن الولاة أن يستأثروا بالأموال التي للمسلمين فيها الحق ، ويستأثروا بها لأنفسهم عن المسلمين ، ولكن : ( قالوا : ما تأمرنا ؟ قال : تؤدون الحق الذي عليكم ) : يعني لا يمنعكم استئثارهم بالمال عليكم أن تمنعوا ما يجب عليكم نحوَهم من السمع والطاعة ، وعدم الإثارة ، وعدم التشويش عليهم ، لا ، اصبروا ، اسمعوا وأطيعوا ولا تنازعوهم الأمر الذي أعطاهم الله .
( واسألوا الذي لكم ) : يعني اسألوا الحق الذي لكم ، اسألوا الله الذي لكم يعني : اسألوا الله الحق الذي لكم ، أي : اسألوا الله أن يهديهم حتى يؤدوكم الحق الذي عليهم لكم ، وهذا من حكمة النبي صلى الله عليه وسلم ، فإنه عليه الصلاة والسلام علم أن النفوس شحيحة وأنها لن تصبر على من يستأثر عليهم بحقوقهم ، ولكنه عليه الصلاة والسلام أرشد إلى أمر قد يكون فيه الخير ، وذلك بأن يؤدي ما علينا نحوهم من السمع والطاعة ، وعدم منازعة الأمر ، وغير ذلك ، ونسأل الله الذي لنا ، وذلك إذا قلنا : اللهم اهدهم حتى يعطونا حقنا ، كان في هذا خير من جهتين .
وفيه دليل على نبوة الرسول صلى الله عليه وسلم ، لأنه أخبر في أمر وقع ، أخبر بأمر وقع ، فإن الخلفاء والأمراء منذ عهد بعيد كانوا يستأثرون بالمال ، فتجدهم يأكلون إسرافًا ويشربون إسرافًا ويلبسون إسرافًا ويسكنون إسرافًا ويركبون إسرافًا ، وقد استأثروا بمال الناس لمصالح أنفسهم الخاصة ، ولكن هذا لا يعني أن ننزع يداً مِن طاعة ، أو أن ننابذهم ، بل نسأل الله الذي لنا ونقوم بالحق الذي علينا .
وفيه أيضا : استعمال الحكمة في الأمور التي قد تقتضي الإثارة ، فإنه لا شك أن استئثار الولاة بالمال دون الرعية يوجب أن تثور الرعية ، وتطالب بحقها ، ولكن الرسول عليه الصلاة والسلام أمر بالصبر على هذا ، وأن نقوم بما يجب علينا ونسأل الله الذي لنا .
أما حديث أُسيد بن حضير رضي الله عنه فهو كحديث ابن مسعود ، أخبر النبي صلى الله عليه وسلم : ( أنها ستكون أثرة ) ، ولكنه قال : ( اصبروا حتى تلقوني على الحوض ) : يعني اصبروا : لا تنابذوا الولاة أمرهم ، حتى تلقوني على الحوض يعني : أنكم إذا صبرتم ، فإن من جزاء الله لكم على صبركم أن يسقيكم من حوضه ، من حوض النبي صلى الله عليه وسلم ، اللهم اجعلنا جميعا ممن يرده ويشرب منه .
الطالب : آمين .
الشيخ : هذا الحوض الذي يكون في يوم القيامة ، في مكان وزمان أحوجَ ما يكون الناسُ إليه ، لأنه في ذلك المكان وفي ذلك الزمان في يوم الآخرة يحصل على الناس من الهم والغم والكَرب والعرق والحر ما يجعلهم في أشد الضرورة إلى الماء ، فيردون حوض النبي صلى الله عليه وسلم ، حوضٌ عظيم طوله شهر وعرضه شهر ، يصبُّ عليه ميزابان من الكوثر وهو نهر في الجنة ، أُعطيَه النبي صلى الله عليه وسلم ميزابان يعني : مثعبان ، يصبان عليه ماءً أشدَّ بياضا من اللبن ، وأحلى من العسل ، وأطيب من رائحة المسك ، وفيه أواني كنجوم السماء ، آنيته كنجوم السماء في اللمعان والحسن والكثرة ، مَن شرب منه شَربة واحدة لم يظمأ بعدها أبدا ، اللهم اجعلنا ممن يشرب منه .
فأرشدهم النبي عليه الصلاة والسلام إلى أن يصبروا ولو وجدوا الأثرة ، فإن صبرهم على ظلم الولاة مِن أسباب الورود على الحوض والشرب منه .
إذًا في هذين الحديثين حث على الصبر على أي شيء ؟ على استئثار ولاة الأمر بحقوق الرعية ، ولكن يجب أن نعلم : " أن الناس كما يكونون يولى عليهم " ، كما يكونون يولى عليهم ، إذا أساؤوا ما بينهم وبين الله فإن الله يسلط عليهم ولاتهم كما قال تعالى : (( وَكَذَلِكَ نُوَلِّي بَعْضَ الظَّالِمِينَ بَعْضاً بِمَا كَانُوا يَكْسِبُونَ )) فإذا صلحت الرعية يسر الله لهم ولاة صالحين ، وإذا كان بالعكس كان الأمر بالعكس ، ويُذكر أن رجلا من الخوارج جاء إلى علي بن أبي طالب رضي الله عنه وقال له : " يا علي ! ما بال الناس انتقضوا عليك ، ولم ينتقضوا على أبي بكر وعمر ؟ فقال له : إن الرجال إن رجال أبي بكر وعمر كنت أنا وأمثالي ، رجال أبي بكر وعمر ، أما أنا فكان رجالي أنت وأمثالَك " : يعني أنت ما فيك خير فصار سببا لتسلط الناس وتفرقهم على علي بن أبي طالب وخروجهم عليه ، حتى قتلوه رضي الله عنه ، ويُذكر أن أحد ملوك بني أمية سمع مقالة الناس فيه ، فجمع أشراف الناس ووجهاءَهم ، وكلمهم ، وأظنه عبد الملك بن مروان كلمهم وقال لهم : " أيها الناس أتريدون أن نكون لكم مثل أبي بكر وعمر ؟ قالوا : نعم ، قال : إذا كنتم تريدون ذلك فكونوا لنا مثل رجال أبي بكر وعمر " ، الله سبحانه وتعالى حكيم ، يولي على الناس مَن يكون بحسب أعمالهم ، إن أساؤوا فإنه يساء إليهم ، وإن أحسنوا أحسن إليهم ، ولكن مع ذلك لا شك أن صلاح الراعي هو الأصل ، وأنه إذا صلح الراعي صلحت الرعية ، لأن الراعي له سلطة يستطيع أن يعدل مَن مال ، وأن يؤدب من عال وجار ، والله الموفق .