شرح قول الإمام النووي رحمه الله تعالى فيما نقله : " ... وعن عبد الله بن كعب بن مالك ، وكان قائد كعب - رضي الله عنه - من بنيه حين عمي ، قال : سمعت كعب بن مالك - رضي الله عنه - يحدث بحديثه حين تخلف عن رسول الله - صلى الله عليه وسلم - في غزوة تبوك . قال كعب : لم أتخلف عن رسول الله - صلى الله عليه وسلم - في غزوة غزاها قط إلا في غزوة تبوك ، غير أني قد تخلفت في غزوة بدر ، ولم يعاتب أحد تخلف عنه ؛ إنما خرج رسول الله - صلى الله عليه وسلم - والمسلمون يريدون عير قريش حتى جمع الله تعالى بينهم وبين عدوهم على غير ميعاد . ولقد شهدت مع رسول الله - صلى الله عليه وسلم - ليلة العقبة حين تواثقنا على الإسلام ، وما أحب أن لي بها مشهد بدر ، وإن كانت بدر أذكر في الناس منها ... " . حفظ
الشيخ : ثم ذكر المؤلف -رحمه الله تعالى- في باب سبق ، في باب التوبة ذكر حديث كعب بن مالك رضي الله عنه ، وهو أحد الثلاثة الذين خُلِّفوا وهم : كعب بن مالك ، هلال بن أُمية ، ومرارة بن الربيع رضي الله عنهم ، وسيأتي إن شاء الله الكلام عليها مستقبلا .
القارئ : قال -رحمه الله تعالى- : " وعن عبد الله بن كعب بن مالك ، وكان قائد كعب رضي الله عنه من بنيه حين عَمي ، قال : سمعتُ كعبَ بن مالك رضي الله عنه يحدث بحديثه حين تخلَّف عن رسول الله صلى الله عليه وسلم في غزوة تبوك ، قال كعب : ( لم أتخلَّف عن رسول الله صلى الله عليه وسلم في غزوة غزاها قط إلا في غزوة تبوك ، غير أني قد تخلَّفت في غزوة بدر ، ولم يُعاتَب أحدٌ تخلف عنه ، إنما خرج رسول الله صلى الله عليه وسلم والمسلمون يريدون عير قريش حتى جمع الله تعالى بينهم وبين عدوهم على غير ميعاد . ولقد شهدت مع رسول الله صلى الله عليه وسلم ليلة العقبة حين تواثقنا على الإسلام ، وما أحبُ أن لي بها مشهد بدر ، وإن كانت بدر أذكر في الناس منها ، وكان من خبري ) " .
الشيخ : بسم الله الرحمن الرحيم :
هذا الحديث حديث كعب بن مالك رضي الله عنه في قصة تَخلُّفه عن غزوة تبوك ، وكانت غزوة تبوك في السنة التاسعة من الهجرة ، غزا النبي صلى الله عليه وسلم الروم وهم على دين النصارى ، حين بلغه أنهم يجمعون له ، فغزاهم النبي صلى الله عليه وسلم ، وأقام بتبوك عشرين ليلة ، ولكنه لم ير كيدا ولم ير عدوا فرجع ، وكانت هذه الغزوة ، كانت في أيام الحر حين طاب الثمار والرطب ، وصار المنافقون يحبون الدنيا على الآخرة ، فتخلف المنافقون عن هذه الغزوة ، ولجؤوا إلى الظل والرطب والتمر وبعُدت عليهم الشُّقة والعياذ بالله ، أما المؤمنون الخُلَّص فإنهم خرجوا مع النبي صلى الله عليه وسلم ولم يثن عزمهم بعد المشَّقة بل بعد الشقة ولا طيب الثمار ، إلا أن كعب بن مالك رضي الله عنه تخلف عن غزوة تبوك بلا عذر وهو من المؤمنين الخلص ولهذا قال : ( إنه ما تخلف عن رسول الله صلى الله عليه وسلم في غزوة غزاها قط ) كل غزوات الرسول عليه الصلاة والسلام قد شارك فيها كعب رضي الله عنه ، فهو من المجاهدين في سبيل الله ، إلا في غزوة بدر ، غزوة بدر تخلف كعب وغيره ، لأن النبي صلى الله عليه وسلم خرج من المدينة لا يريد القتال ولذلك لم يخرج معه إلا ثلاثمئة وبضعة عشر رجلا فقط ، لأنهم كانوا يريدون أن يأخذوا عيرا لقريش يعني حملا ، إبل محملة قدمت من الشام وتريد مكة وتمر بالمدينة ، فخرج النبي عليه الصلاة والسلام من أجل أن يستقبل هذه العير ويأخذها ، وذلك لأن أهل مكة أخرجوا النبي صلى الله عليه وسلم وأصحابه من ديارهم وأموالهم ، فأموالهم غنيمة للرسول عليه الصلاة والسلام ، ويحل له أن يخرج ليأخذها ، وليس في ذلك عدوان من رسول الله صلى الله عليه وسلم وأصحابه ، بل هذا أخذ لبعض حقهم .
المهم أن الرسول صلى الله عليه وسلم خرج في ثلاثمئة وبضعة عشر رجلا ليس معهم إلا سبعون بعيرا وفرسان فقط ، يعني ليس معهم عُدة والعدد قليل ولكن الله سبحانه وتعالى جمع بينهم وبين عدوهم على غير ميعاد ، لينفذ الله ما أراد عز وجل .
فسمع أبو سفيان وهو قائد العير أن النبي صلى الله عليه وسلم خرج إليه ليأخذ العير ، فعدل عن سيره إلى الساحل ، وأرسل إلى قريش صارخا يستنجدهم ، يستغيثهم يقول : يلا هلموا أنقذوا العير ، فاجتمعت قريش وخرج كبراؤها وزعماؤها وشرفاؤها فيما بين تسعمئة إلى ألف رجل ، خرجوا كما قال تعالى : (( خرجوا من ديارهم بطرا ورئاء الناس ويصدُّون عن سبيل الله )) ، ولما كانوا في أثناء الطريق وعلموا أن العير نجت تراجعوا فيما بينهم ، وقالوا : العير نجت فما لنا وللقتال ؟
فقال أبو جهل : قال : " والله لا نرجع حتى نقدم بدرا ، فنقيم فيها ثلاثا ، ننحر الجزور ونسقي الخمور ونطعم الطعام وتسمع بنا العرب ، فلا يزالون يهابوننا أبدا " ، هكذا قال ، بطَر استكبار فخر ، ولكن الحمد لله صارت العرب تتحدث بهم بالهزيمة النكراء التي لم يذق العرب مثلها ، لما التقوا بالنبي عليه الصلاة والسلام وكان ذلك في رمضان في السنة الثانية من الهجرة ، في اليوم السابع عشر منه ، التقوا فأوحى الله عز وجل إلى الملائكة : (( أني معكم فثبتوا الذين آمنوا سأُلقي في قلوب الذين كفروا الرعب )) : شوف تثبيت للمؤمنين وإلقاء الرعب في قلوب الذين كفروا ، ما أقرب النصر في هذه الحال ، رعب في قلوب الأعداء ، وثبات في قلوب المؤمنين ، فثبت الله المؤمنين ثباتا عظيما ، وأنزل في قلوب الذين كفروا الرعب ، قال الله تعالى : (( فَاضْرِبُوا فَوْقَ الْأَعْنَاقِ وَاضْرِبُوا مِنْهُمْ كُلَّ بَنَانٍ )) : كل مفصل ، اضربوا ، الأمر ميسر لكم فجعل المسلمون ولله الحمد يجلدون فيهم ، قتلوا سبعين رجلا وأسروا سبعين رجلا ، والذين قتلوا ليسوا من أطرافهم ، الذين قتلوا كلهم من صناديدهم وكبرائهم ، وأخذ منهم أربعة وعشرون رجلا يسحبون سحبا أُلقوا في قليب من قُلب بدر ، سُحبوا حتى ألقوا في القليب جثث هامدة ، فوقف عليهم النبي عليه الصلاة والسلام وقال لهم : ( يا فلان بن فلان ) : يناديهم بأسمائهم وأسماء آبائهم ، ( هل وجدتم ما وعد ربكم حقا ؟! فإني وجدت ما وعدني ربي حقا ، فقالوا : يا رسول الله كيف تكلم أناسا قد جيفوا ؟ قال : والله ما أنتم بأسمع لما أقول منهم ولكنهم لا يجيبون ) : يسمعون لكن لا يجيبون موتى ، وهذه لله الحمد نعمة علينا أن نشكر الله عز وجل عليها كلما ذكرناها ، نصر الله نبيه وسمى هذا اليوم يوم الفرقان : (( يَوْمَ الْفُرْقَانِ يَوْمَ الْتَقَى الْجَمْعَانِ )) ، هذا اليوم فرَّق الله فيه بين الحق والباطل تفريقا عظيما ، وانظر إلى قدرة الله عز وجل في هذا اليوم انتصر ثلاثمئة رجل وبضعة عشر رجلا على نحو ألف رجل ، أكمل منهم عُدة وأقوى ، وهؤلاء ليس معهم إلا عدد قليل من الإبل والخيل ، لكن نَصرُ الله عز وجل إذا نزل لقوم لم يكن أمامهم أحد ، وإلى هذا أشار الله بقوله : (( وَلَقَدْ نَصَرَكُمُ اللَّهُ بِبَدْرٍ وَأَنْتُمْ أَذِلَّةٌ )) : أذلة ليس عندكم شيء ، (( فاتقوا الله لعلكم تشكرون )) .
ولما كان المسلمون حين فتحوا مكة وخرجوا باثني عشر ألفا وأمامهم هوازن وثقيف ، فأعجب المسلمون بكثرتهم وقالوا : لن نغلب اليوم عن قلة ، فغلبهم ثلاث آلاف وخمسمئة رجل ، غلبوا اثني عشر ألف رجل ، بقيادة النبي صلى الله عليه وسلم ، لماذا ؟ لأنهم أعجبوا بكثرتهم ، قالوا : " لن نغلب اليوم عن قلة " ، فأراهم الله عز وجل أن كثرتهم لم تنفعهم ، قال الله تعالى : (( وَيَوْمَ حُنَيْنٍ إِذْ أَعْجَبَتْكُمْ كَثْرَتُكُمْ فَلَمْ تُغْنِ عَنْكُمْ شَيْئاً وَضَاقَتْ عَلَيْكُمُ الْأَرْضُ بِمَا رَحُبَتْ ثُمَّ وَلَّيْتُمْ مُدْبِرِينَ )) .
المهم أن كعب بن مالك رضي الله عنه لم يشهد بدرا لكن تخلف عنها لأن النبي صلى الله عليه وسلم لم يخرج لقتال ، إنما خرج للعير ولكن الله جمع بينه وبين عدوه على غير ميعاد ، أتدرون ماذا حصل لأهل بدر ؟ ( اطلع الله عليهم ، وقال لهم : اعملوا ما شئتم فقد غفرت لكم ) : كل معصية تقع منهم فهي مغفورة ، لأن الثمن مقدم في هذه الغزوة ، صارت سببا لكل خير .