شرح قول الإمام النووي رحمه الله تعالى فيما نقله : " ... عن أبي ثابت وقيل أبي سعيد وقيل أبي الوليد سهل بن حنيف وهو بدري رضي الله عنه أن النبي صلى الله عليه وسلم قال ( من سأل الله تعالى الشهادة بصدق بلغه منازل الشهداء وإن مات على فراشه ) رواه مسلم . حفظ
الشيخ : بسم الله الرحمن الرحيم :
قال المؤلف -رحمه الله- فيما نقله عن سهل بن حُريث عن النبي صلى الله عليه وسلم أنه قال : ( من سألَ اللهَ الشهادة بصدق أنزل الله تعالى منازل الشهداء وإن مات على فراشه ) : هذا الحديث ذكره المؤلف -رحمه الله- في باب الصدق ، والشاهد منه قوله : ( من سأل الله الشهادة بصدق ) : والشهادة مرتبة عالية بعد الصديقية ، كما قال الله تعالى : (( وَمَنْ يُطِعِ اللَّهَ وَالرَّسُولَ فَأُولَئِكَ مَعَ الَّذِينَ أَنْعَمَ اللَّهُ عَلَيْهِمْ مِنَ النَّبِيِّينَ وَالصِّدِّيقِينَ وَالشُّهَدَاءِ وَالصَّالِحِينَ )) ، وهي أنواع كثيرة منها : الشهادة بأحكام الله عز وجل على عباد الله ، وهذه شهادة العلماء ، التي قال الله فيها : (( شَهِدَ اللَّهُ أَنَّهُ لا إِلَهَ إِلَّا هُوَ وَالْمَلائِكَةُ وَأُولُو الْعِلْمِ )) .
وقد ذهب كثير من العلماء في تفسير قوله تعالى : (( والشهداء )) : إلى أنهم العلماء ، ولا شك أن العلماء شهداء ، شهداء على أي شيء ؟ يشهدون بأن الله تعالى أرسل رسوله محمدا صلى الله عليه وسلم بالهدى ودين الحق ، ويشهدون على الأمة بأنها بُلغت شريعةَ الله ، ويشهدون أيضا في أحكام الله هذا حلال وهذا حرام ، هذا واجب وهذا مستحب ، هذا مكروه ، ولا يعرف هذا إلا أهل العلم ، لذلك كانوا شهداء .
ومن الشهداء أيضا من يصاب بالطعن ، والبطن ، المطعون والمبطون والحريق والغريق وما أشبههم .
ومن الشهداء الذين قتلوا في سبيل الله .
ومن الشهداء الذين يقتلون دون أموالهم ودون أنفسهم كما قال النبي عليه الصلاة والسلام حين سُئل ، سأله رجل قال : ( أرأيت يا رسول الله إن جاءني رجل يطلب مالي ) يعني : عَنوة قال : ( لا تعطه . قال : أرأيت إن قاتلني . قال : قاتله . قال : أرأيت إن قتلته . قال : هو في النار ) : لأنه معتد ظالم قال : ( أرأيت إن قتلني ؟ قال : إن قتلك فأنت شهيد ) . وقال النبي عليه الصلاة والسلام : ( من قتل دون ماله من قتل دون أهله فهو شهيد ) .
ومن الشهداء أيضا من قتلوا ظلما يعتدي عليه الإنسان فيقتله غِيلة ظلما ، فهذا أيضا شهيد ، ولكن أعلى الشهداء هم الذين يقتلون في سبيل الله كما قال الله تعالى : (( وَلا تَحْسَبَنَّ الَّذِينَ قُتِلُوا فِي سَبِيلِ اللَّهِ أَمْوَاتاً بَلْ أَحْيَاءٌ عِنْدَ رَبِّهِمْ يُرْزَقُونَ فَرِحِينَ بِمَا آتَاهُمُ اللَّهُ مِنْ فَضْلِهِ وَيَسْتَبْشِرُونَ بِالَّذِينَ لَمْ يَلْحَقُوا بِهِمْ مِنْ خَلْفِهِمْ أَلَّا خَوْفٌ عَلَيْهِمْ وَلا هُمْ يَحْزَنُونَ * يَسْتَبْشِرُونَ بِنِعْمَةٍ مِنَ اللَّهِ وَفَضْلٍ وَأَنَّ اللَّهَ لا يُضِيعُ أَجْرَ الْمُؤْمِنِينَ )) ، ولكن مَن هؤلاء ؟ هم الذين قاتلوا لتكون كلمة الله هي العليا ، ما قاتلوا لحظوظ أنفسهم ، ما قاتلوا لأموالهم ، وإنما قاتلوا لتكون كلمة الله هي العليا كما قال ذلك النبي عليه الصلاة والسلام : ( حين سئل عن الرجل يقاتل شجاعة ويقاتل حمية ويقاتل ليرى مكانه أي ذلك في سبيل الله ؟ قال : من قاتل لتكون كلمة الله هي العليا فهو في سبيل الله ) : هذا الميزان ، ميزان عدل لا يخيس ، ميزان وضعه النبي صلي الله عليه وسلم يزن به الإنسان عمله ، إذا كان قتالك لتكون كلمة الله هي العليا فأنت في سبيل الله ، إن قتلت فأنت شهيد ، وإن غنمت فأنت سعيد ، كما قال الله تعالى : (( قُلْ هَلْ تَرَبَّصُونَ بِنَا إِلَّا إِحْدَى الْحُسْنَيَيْنِ )) : إما الشهادة وإما الظفر والنصر ، (( وَنَحْنُ نَتَرَبَّصُ بِكُمْ أَنْ يُصِيبَكُمُ اللَّهُ بِعَذَابٍ مِنْ عِنْدِهِ أَوْ بِأَيْدِينَا )) يعني : إما أن الله يعذبكم ويقينا شركم ، كما فعل الله تعالى في الأحزاب الذين تجمعوا على المدينة يريدون قتال الرسول عليه الصلاة والسلام فأرسل الله عليهم ريحا وجنودا وألقى في قلوبهم الرعب ، أو بأيدينا : كما حصل في بدر ، فإن الله تعالى عذب المشركين بأيدي الرسول عليه الصلاة والسلام وأصحابه ، هذا الذي يقاتل لتكون كلمة الله هي العليا هو الشهيد ، فإذا سأل الإنسان ربه قال : اللهم إني أسألك الشهادة في سبيلك ، ولا تكون الشهادة إلا بالقتال لتكون كلمة الله هي العليا ، فإن الله تعالى إذا علم منه صدق القول والنية أنزله منازل الشهداء وإن مات على فراشه .
بقي علينا الذي يقاتل دفاعا عن بلده هل هو في سبيل الله أو لا ؟ نقول : إذا كنت تقاتل عن بلدك لأنها بلد إسلامي فتريد أن تحميها من أجل أنها بلد إسلامي فهذا في سبيل الله ، لأنك قاتلت لتكون كلمة الله هي العليا ، أما إذا قاتلت من أجل أنها وطن فقط فهذا ليس في سبيل الله ، لأن الميزان الذي وضعه النبي عليه الصلاة والسلام لا ينطبق عليه : ( من قاتل لتكون كلمة الله هي العليا ) وما سوى ذلك فليس في سبيل الله ، ولهذا يجب أن يصحح الإنسان نيته في القتال للدفاع عن بلده ، بأن ينوي بذلك أنه يقاتل عن هذا البلد لأنه بلد إسلامي فيريد أن يحفظ الإسلام الذي فيه ، وبهذا يكون إذا قتل شهيدا له أجر الشهداء ، وإذا غَنِم صار سعيدا ربح إما الدنيا وإما الآخرة ، والله الموفق .