شرح قول الإمام النووي رحمه الله تعالى فيما نقله : " ... عن أبي هريرة رضي الله عنه قال قال رسول الله صلى الله عليه وسلم ( غزا نبي من الأنبياء صلوات الله وسلامه عليهم فقال لقومه لا يتبعني رجل ملك بضع امرأة وهو يريد أن يبني بها ولما بين بها ولا أحد بنى بيوتاً لم يرفع سقوفها، ولا أحد اشترى غنما أو خلفات وهو ينتظر أولادها فغزا فدنا من القرية صلاة العصر أو قريباً من ذلك فقال للشمس إنك مأمورة وأنا مأمور اللهم احبسها علينا فحبست حتى فتح الله عليه فجمع الغنائم فجاءت يعني النار لتأكلها فلم تطعمها فقال إن فيكم غلولاً فليبايعني من كل قبيلة رجل فلزقت يد رجل بيده فقال فيكم الغلول فليبايعني قبيلتك فلزمت يد رجلين أو ثلاثة يده فقال فيكم الغلول فجاءوا برأس مثل رأس بقرة من الذهب فوضعها فجاءت النار فأكلتها فلم تحل الغنائم لأحد قبلنا ثم أحل الله لنا الغنائم لما رأى ضعفنا وعجزنا فأحلها لنا ) . متفق عليه ... " . حفظ
الشيخ : بسم الله الرحمن الرحيم :
هذا الحديث الذي نقله المؤلف -رحمه الله- فيه آيات عظيمة ، فإن النبي صلى الله عليه وسلم حدث عن نبي من الأنبياء عليهم الصلاة والسلام أنه غزا ، غزا قوما أُمر بجهادهم ، لكنه عليه الصلاة والسلام منع كل إنسان عقد امرأة ولم يدخل بها ، وكل إنسان بنى بيتا ولم يرفع سقفه ، وكل إنسان اشترى خَلفا أو غنما وهو ينتظر أولادها ، وذلك لأن هؤلاء يكونون مشغولين بما أهمهم ، فالرجل المتزوج مشغول بزوجته التي لم يدخل بها ، فهو في شوق إليها ، وكذلك الرجل الذي رفع بيتا ولم يرفع سقفه هو أيضا مشتغل بهذا البيت الذي يريد أن يسكنه هو وأهله ، وكذلك صاحب الخلِفَات والغنم مشغول بها ينتظر أولادها ، والجهاد ينبغي أن يكون فيه الإنسان متفرغا ليس له هم إلا الجهاد ، ولهذا قال الله تعالى : (( فَإِذَا فَرَغْتَ فَانْصَبْ )) : يعني إذا فرغت من شؤون الدنيا بحيث لا تنشغل بها فانصب للعبادة ، وقال النبي عليه الصلاة والسلام : ( لا صلاة بحضرة طعام ولا وهو يدافعه الأخبثان ) : فدل هذا على أنه ينبغي للإنسان إذا أراد الطاعة أن يفرغ قلبه وبدنه لها ، حتى يأتيها وهو مشتاق إليها ، وحتى يؤديها على مهل وطمأنينة وانشراح صدر .
ثم إنه غزا فنزل بالقوم بعد صلاة العصر ، قد أقبل الليل ، وخاف إن أظلم الليل ألا يكون هناك انتصار ، فجعل يخاطب الشمس يقول : ( أنت مأمورة وأنا مأمور ) : لكن أمر الشمس أمر كوني ، وأما أمره فأمر شرعي ، هو أُمر بالجهاد والشمس أمرت أن تسير حيث أمرها الله عز وجل ، قال الله تعالى : (( وَالشَّمْسُ تَجْرِي لِمُسْتَقَرٍّ لَهَا ذَلِكَ تَقْدِيرُ الْعَزِيزِ الْعَلِيمِ )) : منذ خلقها الله وهي سائرةٌ حيث أُمرت لا تتقدم ولا تتأخر ولا تنزل ولا ترتفع ، قال : ( أنت مأمورة وأنا مأمور اللهم فاحبسها عنا ) : فحبس الله الشمس ، ولم تغب في وقتها ، حتى غزا هذا النبي وغنم غنائم كثيرة ، ولما غنم الغنائم وكانت الغنائم في الأمم السابقة لا تحل للغزاة ، حِل الغنائم من خصائص هذه الأمة ولله الحمد ، أما الأمم السابقة فكانوا يجمعون الغنائم فتنزل عليها نار من السماء فتحرقها ، فجمعت الغنائم فلم تنزل النار ، لم تأكلها ، فقال : ( فيكم الغُلول ) يقوله النبي ، ( ثم أمر من كل قبيلة أن يتقدم واحد يبايعه على أنه لا غلول ، فلما بايعوه على أنه لا غلول لزقت يد أحد منهم بيد النبي ، لزقت فلما لزقت قال : فيكم الغلول ) يعني القبيلة هذه .
( ثم أمر بأن يبايعه كل واحد على حدة من هذه القبيلة ، فلزقت أيدي واحد أو ثلاثة منهم بيد النبي فقال : فيكم الغلول فجاؤوا به ) ، والغُلول : هو السرقة من الغنيمة إخفاء شيء من الغنيمة هذا الغلول ، فإذا هم قد أخفوا مثل رأس الثور من الذهب ، فلما جيء به ووضع مع الغنائم أكلتها النار ، سبحان الله هذا من آيات الله عز وجل.
ففي هذا الحديث دليل على فوائد عديدة منها :
أولا : أن الجهاد مشروع في الأمم السابقة كما هو مشروع في هذه الأمة ، وقد دل على هذا كتاب الله في قوله تعالى : (( وَكَأَيِّنْ مِنْ نَبِيٍّ قَاتَلَ مَعَهُ رِبِّيُّونَ كَثِيرٌ فَمَا وَهَنُوا لِمَا أَصَابَهُمْ فِي سَبِيلِ اللَّهِ وَمَا ضَعُفُوا وَمَا اسْتَكَانُوا )) ، وكذلك قصة طالوت وجالوت وداود عليه الصلاة والسلام في سورة البقرة .
وفيها أيضا : في هذا الحديث من الفوائد : دليل على عظمة الله عز وجل وأنه مدبر الكون ، وأنه سبحانه وتعالى يُجري الأمور على غير طبائعها ، على غير طبائعها إما لتأييد الرسول ، وإما لدفع شر عنه ، وإلا لمصلحة في الإسلام .المهم أن آيات الأنبياء فيها تأييد لهم بأي وجه كان ، وذلك أن الشمس حسب طبيعتها التي خلقها الله عليها تجري دائما ولا تقف ولا تتقدم ولا تتأخر إلا بأمر الله ، لكن الله هنا أمرها أن تنحبس فطال وقت ما بين صلاة العصر إلى الغروب حتى فتح الله على يد النبي ، وفي هذا رد على أهل الطبيعة الذين يقولون : إن الأفلاك لا تتغير ، سبحان الله كيف الأفلاك لا تتغير ؟ من الذي خلق الأفلاك ؟! الله عز وجل ، فالذي خلقها قادر على تغييرها ، ولكن هم يرون أن هذه الأفلاك تجري بمقتضى الطبيعة ولا أحد يتصرف فيها والعياذ بالله لأنهم ينكرون الخالق ، ما في خالق عندهم ، وقد دلت الأدلة من الكتاب والسنة على أن الأفلاك تتغير بأمر الله ، فهذا النبي دعا الله ووقفت الشمس .