شرح قول الإمام النووي رحمه الله تعالى فيما نقله : " ... وتؤمن بالقدر خيره وشره ... " . مع ذكر تعريفه ومراتبه . حفظ
الشيخ : بسم الله الرحمن الرحيم .
الحمد لله رب العالمين وأصلي وأسلم على نبينا محمد وعلى آله وأصحابه ومن تبعهم بإحسان إلى اليوم الدين أما بعد :
فقد انتهى من الكلام على حديث عمر بن الخطاب رضي الله عنه في مجيء جبريل إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم وسؤاله عن الإسلام والإيمان والإحسان والساعة وأشراطها انتهى بنا الكلام إلى الركن السادس من أركان الإيمان وهو الإيمان بالقدر خيره وشره
القدر هو تقدير الله سبحانه وتعالى لما يكون إلى يوم القيامة وذلك أن الله سبحانه وتعالى ( خلق القلم فقال له اكتب قال ربي وماذا أكتب قال اكتب ماهو كائن فجرى في تلك الساعة بما هو كائن إلى يوم القيامة ) فما أصاب الإنسان لم يكن ليخطئه وما أخطأه لم يكن ليصيبه وقد ذكر الله هذا في كتابه إجمالا فقال (( ألم تعلم أن الله يعلم ما في السماء والأرض إن ذلك في كتاب إن ذلك على الله يسير )) وقال تعالى (( ما أصاب من مصيبة في الأرض ولا في أنفسكم إلا في كتاب من قبل أن نبرأها إن ذلك على الله يسير )) من قبل أن نبرأها أي من قبل أن نخلقها أي من قبل أن نخلق الأرض من قبل أن نخلق أنفسكم من قبل أن نخلق المصيبة فإن الله كتب هذا قبل خلق السماوات والأرض بخمسين ألف سنة قال أهل العلم ولابد للإيمان بالقدر من أن تؤمن بكل مراتبه الأربع
المرتبة الأولى أن تؤمن بأن الله تعالى عليم بكل شيء وهذا كثير في الكتاب العظيم يذكر الله عز وجل عموم علمه بكل شيء كما قال تعالى (( لتعملوا أن الله على كل شيء قدير وأن الله قد أحاط بكل شيء علما )) ولقوله تعالى (( وعنده مفاتح الغيب لا يعلمها إلا هو ويعلم ما في البر والبحر وما تسقط من ورقة إلا يعلمها ولا حبة في ظلمات الأرض ولا رطب ولا يابس إلا في كتاب مبين ))
والمرتبة الثانية أن تؤمن بأن الله تعالى كتب مقادير كل شيء إلى قيام الساعة كتبه قبل خلق السماوات والأرض بخمسين ألف سنة كل شيء كائن فإنه مكتوب قد انتهي منه جفت الأقلام وطويت الصحف فما أصابك لم يكن ليخطئك وما أخطأك لم يكن ليصيبك إذا أصابك شيء لا تقول والله " لو أني فعلت ما أصابني " لأن هذا شيء منتهي مكتوب لابد أن يقع كما كتب الله سبحانه وتعالى لا مفر لك منه مهما عملت فالأمر سيكون على ما وقع لا يتغير أبدا لأن هذا أمر قد كتب
فإن قال قائل ألم يكن قد جاء في الحديث ( من أحب أن يبسط له في رزقه وينسأ له في أثره فليصل رحمه ) فالجواب بلى جاء هذا ولكن الإنسان الذي قد نسئ له في أثره وبسط له في رزقه من أجل الصلة قد كتب ذلك له كتب أنه سيصل رحمه وأنه سيبسط له في الرزق وأنه سينسأ له في الأثر لابد أن يكون الأمر هكذا ولكن الرسول عليه الصلاة والسلام قال ( من أحب أن بيسط له في رزقه وينسأ له في أثره ) من أجل أن نبادر ونسارع إلى صلة الرحم وإلا فهو مكتوب مكتوب أن هذا الرجل سوف يصل رحمه وسيحصل له هذا الثواب وأنه لن يصل رحمه وسيحرم من هذا الثواب أمر منتهي لكن أخبرنا الرسول عليه الصلاة والسلام بهذا من أجل أن نحرص على صلة الرحم
واعلم أن الكتابة في اللوح المحفوظ يعقبها كتابات أخر
منها أن الجنين في بطن أمه إذا تم له أربعة أشهر أرسل الله إليه ملكا موكلا بالأرحام فينفخ فيه الروح ويؤمر بأربع كلمات بكتب رزقه وأجله وعمله وشقي أو سعيد فيكتب ذلك وهذه الكتابة غير الكتابة التي في اللوح المحفوظ هذه كتابة في مقتبل عمر الإنسان ولهذا يسميها العلماء الكتابة العمرية يعني نسبة للعمر إذا تم له أربعة أشهر يعني مئة وعشرون يوما ولهذا تجد الجنين الحمل في البطن إذا تم له أربعة أشهر بدأ يتحرك لأنه دخلت فيه الروح وقبل ذلك هو قطعة من اللحم
كذلك فيه كتابة أخرى تكون في كل سنة في ليلة القدر فإن ليلة القدر يكتب الله فيها ما يكون في تلك السنة كما قال تعالى (( إنا أنزلناه في ليلة مباركة إنا كنا منذرين فيها يفرق كل أمر حكيم )) يعني يفرق يبين ويفصل ولهذا سميت ليلة القدر
المرتبة الثالثة للإيمان بالقدر أن تؤمن بأن كل شيء فهو بمشيئة الله كل شيء يقع فإنه بمشيئة الله لا يخرج عن مشيئته شيء ولا فرق بين أن يكون هذا الواقع مما يختص الله به كإنزال المطر وإحياء الموتى وما أشبه ذلك أو مما يعمله الخلق كالصلاة والصيام وما أشبهها فكل هذا بمشيئة الله قال الله تعالى (( لمن شاء منكم أن يستقيم وما تشاءون إلا أن يشاء الله رب العالمين )) وقال تعالى (( ولو شاء الله ما اقتتل الذين من بعدهم من بعد ما جاءتهم البينات ولكن اختلفوا فمنهم من آمن ومنهم من كفر ولو شاء الله ما اقتتلوا ولكن الله يفعل ما يريد )) فبين سبحانه وتعالى أنه لا مشيئة لنا إلا بمشيئة الله وأن أفعالنا واقعة بمشيئة الله (( ولو شاء الله ما اقتتلوا )) كل شيء فإنه واقع بمشيئة الله لا يكون في ملكه ما لا يشاؤه أبدا ولهذا أجمع المسلمون على هذه الكلمة العظيمة " ما شاء الله كان وما لم يشأ لم يكن "
أما المرتبة الرابعة فهي الإيمان بأن كل شيء كل شيء مخلوق لله لقول الله تبارك وتعالى (( الله خالق كل شيء وهو على كل شيء وكيل )) وقال تعالى (( وخلق كل شيء فقدره تقديرا )) فكل شيء واقع فإنه مخلوق لله عز وجل الإنسان مخلوق لله عمل الإنسان مخلوق لله قال الله تعالى عن إبراهيم وهو يخاطب قومه (( والله خلقكم وما تعملون )) ففعل العبد مخلوق لله لكن المباشر للفعل هو العبد وليس الله لكن الله هو الذي خلق هذا الفعل ففعله العبد فهو منسوب لله خلقا ومنسوب إلى العبد كسبا وفعلا فالفاعل هو العبد والكاسب هو العبد والخالق هو الله كل شيء مما يحدث فإنه مخلوق لله عز وجل
لكن ما كان من صفات الله فليس بمخلوق فالقرآن مثلا أنزله الله على محمد صلى الله عليه وسلم لكنه ليس بمخلوق لأن القرآن كلام الله وكلام الله صفة من صفاته وصفات الله تعالى ليست بمخلوقة
هذه أمور أربعة بل هذه مراتب أربع للإيمان بالقدر
الأولى الإيمان بعلم الله المحيط الشامل لكل شيء
الثاني الإيمان بكتابة الله أن الله كتب في اللوح المحفوظ كل شيء وهناك كتابات أخر بينت منها شيئا
الثالث أن كل شيء واقع بمشيئة الله عز وجل
الرابع أن كل شيء واقع فهو مخلوق لله تبارك وتعالى
لابد أن تؤمن بهذه الأمور الأربعة وإن لم تؤمن بها كلها فإنك لم تؤمن بالقدر فائدة الإيمان بالقدر عظيمة جدا لأن الإنسان يستريح إذا علم أن كل شيء لابد أن يقع كما أراد الله استراح فإذا أصيب بضراء صبر وقال هذا من عند الله وإن أصيب بسراء شكر وقال هذا من عند الله وقد ثبت عن النبي عليه الصلاة والسلام أنه قال ( عجبا لأمر المؤمن إن أمره كله خير إن أصابته سراء شكر فكان خيرا له وإن أصابته ضراء صبر فكان خيرا له ) لأن المؤمن يؤمن أن كل شيء بقضاء الله فيكون دائما في سرور دائما في انشراح لأنه يعلم أنما ما أصابه فإنه من الله إن كان ضراء صبر وانتظر الفرج من الله ولجأ إلى الله تعالى في كشف هذه الضراء وإن كان سراء شكر وحمد الله وعلم أن ذلك لم يكن بحوله وقوته ولكنه بفضل الله ورحمته والله الموفق