تتمة شرح قول الإمام النووي رحمه الله تعالى فيما نقله : " ... قال تعالى (( وسارعوا إلى مغفرة من ربكم وجنة عرضها السماوات والأرض أعدت للمتقين )) ... " . حفظ
الشيخ : بسم الله الرحمن الرحيم .
سبق الكلام على أول الآية الثانية التي ذكرها المؤلف رحمه الله في باب المبادرة إلى فعل الخير وهي قوله تعالى (( وسارعوا إلى مغفرة من ربكم وجنة عرضها السماوات والأرض أعدت للمتقين الذين ينفقون في السراء والضراء والكاظمين الغيظ والعافين عن الناس )) قال الله تعالى (( والله يحب المحسنين )) محبة الله سبحانه وتعالى للعبد هي غاية كل إنسان، كل إنسان مؤمن فإن غايته أن يحبه الله عز وجل وهي المقصود لكل مؤمن لقول الله تعالى (( قل إن كنتم تحبون الله فاتبعوني يحببكم الله )) ولم يقل اتبعوني تصدقوا فيما قلتم بل عدل عن هذا إلى قوله يحببكم الله لأن الشأن كل الشأن أن يحبك الله عز وجل أسأل الله أن يجعلني وإياكم من أحبابه
وأما المحسنون في قولنا المحسنين فالمراد بهم المحسنون في عبادة الله والمحسنون إلى عباد الله المحسنون في عبادة الله بيّن النبي عليه الصلاة والسلام مرتبتهم في قوله حين سأله جبريل عن الإحسان فقال ( أن تعبد الله كأنك تراه فإن لم تكن تراه فإنه يراك ) يعني أن تعبد الله سبحانه وتعالى بقلب حاضر كأنك ترى ربك تريد الوصول إليه فإن لم تفعل فاعلم أن الله يراك فاعبده خوفا وخشية وهذه المرتبة دون المرتبة الأولى، المرتبة الأولى أن تعبد الله طلبا ومحبة وشوقا والثانية أن تعبده هربا وخوفا وخشية
أما الإحسان إلى عباد الله فأن تعاملهم بما هو أحسن في الكلام والأفعال والبذل وكف الأذى وغير ذلك حتى في القول عاملهم بالأحسن قال الله تعالى (( وإذا حييتم بتحية فحيوا بأحسن منها أو ردوها )) يعني إن لم تفعلوا فتحيوا بأحسن منها فلا أقل من أن تردوها ولهذا قال كثير من العلماء إذا قال المسلم السلام عليكم ورحمة الله قل عليكم السلام ورحمة الله هذا أدنى شيء وإن زدت وبركاته فهو أفضل لأن الله قال (( بأحسن منها )) فبدأ بالأحسن ثم قال (( أو ردوها )) كذلك إذا سلم عليك إنسان بصوت واضح بيّن فرده عليه بصوت واضح بين على الأقل كثير من الناس أو بعض الناس إذا سلمت عليه رد عليك السلام بأنفه حتى إنك تكاد ألا تكون تسمعه في رد السلام وهذا غلط لأن هذا خلاف ما سلم عليك به يسلم عليك بصوت واضح ثم ترد بأنفك هذا خلاف ما أمر الله به
كذلك الإحسان بالفعل مثل معونة الناس مساعدتهم في أمورهم كلما ساعدت إنسانا فقد أحسنت إليه مساعدة بالمال بالصدقة بالهدية بالهبة وما أشبه ذلك هذا من الإحسان ومن الإحسان أيضا أنك إذا رأيت أخاك على ذنب أن تبين له ذلك وتنهاه عنه لأن هذا من أعظم الإحسان إليه قال النبي عليه الصلاة والسلام ( انصر أخاك ظالما أو مظلوما قالوا يا رسول الله هذا المظلوم فكيف ننصر الظالم قال أن تمنعه من الظلم ) فإن منعك إياه من الظلم نصر له وإحسان إليه والمهم أنه ينبغي لك في معاملة الناس أن تستحضر هذه الآية (( والله يحب المحسنين )) أن تحسن إليهم بقدر ما تستطيع (( والذين إذا فعلوا فاحشة أو ظلموا أنفسهم ذكروا الله فاستغفروا لذنوبهم )) إذا فعلوا فاحشة الفاحشة ما يستفحش من الذنوب وهي كبائر الذنوب مثل الزنا وشرب الخمر وقتل النفس وما أشبهها كل ما يستفحش فهو فاحشة أو ظلموا أنفسهم بما دون الفاحشة من المعاصي الصغار ذكروا الله أي ذكروا عظمته وذكروا عقابه ثم ذكروا أيضا رحمته وقبوله للتوبة وثوابه فهم يذكرون الله من وجهين
الوجه الأول من حيث العظمة والعقوبة والسلطان العظيم فيوجلون ويخجلون ويستغفرون
والثاني من حيث الرحمة وقبول التوبة فيرغبون في التوبة ويستغفرون الله ولهذا قال (( ذكروا الله فاستغفروا لذنوبهم )) ومن أفضل ما يستغفر به سيد الاستغفار " اللهم أنت ربي لا إله إلا أنت خلقتني وأنا عبدك وأنا على عهدك ووعدك ما استطعت أعوذ بك من شر ما صنعت أبوء لك بنعمتك علي وأبوء بذنبي فاغفر لي فإنه لا يغفر الذنوب إلا أنت "
قال الله تعالى (( ومن يغفر الذنوب إلا الله )) يعني لا أحد يغفر الذنوب إلا الله عز وجل لو أن الأمة كلها من أولها إلى آخرها والجن والملائكة اجتمعوا على أن يغفروا لك ذنبا واحدا ما غفروه لأنه لا يغفر الذنوب إلا الله عز وجل ولكننا نسأل الله المغفرة لنا ولإخواننا الذين سبقونا بالإيمان وأما أن يكون بيدنا أن نغفر فلا لا يغفر الذنوب إلا الله قال الله تعالى (( ولم يصروا على ما فعلوا وهم يعلمون )) يعني لم يستمروا على معاصيهم وظلمهم وهم يعلمون أنها معاصٍ وظلم
وفي هذا دليل على أن الإصرار مع العلم أمره عظيم حتى في صغائر الذنوب ولهذا ذهب كثير من العلماء إلى أن الإنسان إذا أصر ولو على الصغيرة صارت الصغيرة كبيرة ومن ذلك ما يفعه جهلة الناس اليوم من حلق اللحية تجدهم يحلقون اللحية ويصرون على ذلك ولا يرونها إلا زينا وجمالا والحقيقة أنها شين وأنها قبح لأن كل شيء ينتج عن المعصية فلا خير فيه بل هو قبح وهؤلاء الذين يصرّون على هذه المعصية وإن كانت صغيرة لكنها بالإصرار تنقلب كبيرة والعياذ بالله لأن الإنسان لا يبالي يفعل تجده كل يوم كلما أراد أن يخرج إلى السوق أو إلى عمله يذهب وينظر في المرآة إذا وجد شعرة واحدة قد برزت فهي إلى المنقاش أو إلى الحلق نسأل الله العافية وهذا لا شك أنه معصية للرسول عليه الصلاة والسلام وأن الإنسان يخشى عليه من هذا الذنب أن يتدرج به الشيطان أن يتدرج به الشيطان إلى ذنوب أكبر وأعظم قال تعالى (( ولم يصروا على ما فعلوا وهم يعلمون أولئك جزاؤهم مغفرة من ربهم وجنات تجري من تحتها الأنهار خالدين فيها ونعم أجر العاملين )) اللهم اجعلنا من هؤلاء العاملين واجعل جزاءنا ذلك يا رب العالمين