شرح قول الإمام النووي رحمه الله تعالى فيما نقله : " ... عن أبي سروعة ـ بكسر السين المهملة وفتحها ـ عقبة بن الحارث رضي الله عنه قال : صليت وراء النبي صلى الله عليه وسلم بالمدينة العصر فسلم ثم قام مسرعا فتخطى رقاب الناس إلى بعض حجر نسائه ففزع الناس من سرعته فخرج عليهم فرأى أنهم قد عجبوا من سرعته قال ( ذكرت شيئا من تبر عندنا فكرهت أن يحبسني فأمرت بقسمته ) رواه البخاري وفي رواية له : كنت خلفت في البيت تبرا من الصدقة فكرهت أن أبيته . التبر قطع ذهب أو فضة ... " . حفظ
الشيخ : بسم الله الرحمن الرحيم .
قال المؤلف رحمه الله تعالى فيما نقله عن عقبة بن الحارث رضي الله عنه أنه صلى مع النبي صلى الله عليه وسلم ذات يوم صلاة العصر فقام النبي صلى الله عليه وسلم حين انصرف من صلاته مسرعا يتخطى رقاب الناس إلى بعض حجرات زوجاته ثم خرج فرأى الناس قد عجبوا من ذلك فبين لهم النبي صلى الله عليه وسلم سبب هذا وقال ( إني ذكرت تبرا عندنا ) يعني مما تجب قسمته ( فخشيت أن يحبسني فأمرت بقسمته )
ففي هذا الحديث المبادرة إلى فعل الخير وألا يتوانى الإنسان عن فعله وذلك لأن الإنسان لا يدري متى يفجؤه الموت فيفوته الخير والإنسان ينبغي أن يكون كيسا يعمل لما بعد الموت ولا يتهاون وإذا كان الإنسان في أمور دنياه يكون مسرعا وينتهز الفرص فإن الواجب عليه في أمور أخراه أن يكون كذلك بل أولى قال الله تبارك وتعالى (( بل تؤثرون الحياة الدنيا والآخرة خير وأبقى إن هذا لفي الصحف الأولى صحف إبراهيم وموسى ))
وفي هذا دليل على أن رسول الله صلى الله عليه وسلم أسرع الناس مبادرة إلى الخير وأنه عليه الصلاة والسلام محتاج إلى العمل كما أن غيره محتاج إلى العمل ولهذا لما حدّث فقال ( إنه لن يدخل الجنة أحد بعمله قالوا ولا أنت قال ولا أنا إلا أن يتغمدني الله برحمته ) هذا وهو النبي عليه الصلاة والسلام
وفي هذا دليل على جواز تخطي الرقاب بعد السلام من الصلاة لاسيما إذا كان لحاجة وذلك لأن الناس بعد السلام من الصلاة ليسوا في حاجة إلى أن يبقوا في أماكنهم بل لهم الانصراف بخلاف تخطي الرقاب قبل الصلاة فإن ذلك منهي عنه لأنه إيذاء للناس ولهذا قطع النبي صلى الله عليه وسلم خطبته يوم الجمعة حين رأى رجلا يتخطى الرقاب فقال له ( اجلس فقد آذيت )
وفي هذا الحديث دليل على أن رسول الله صلى الله عليه وسلم كغيره من البشر يلحقه النسيان وأنه ينسى كما ينسى غيره وإذا كان صلى الله عليه وسلم ينسى ما كان معلوما عنده من قبل فإنه كذلك من باب أولى يجهل ما لم يكن معلوما عنده من قبل كما قال الله له (( قل لا أعلم الغيب )) (( قل لا أعلم الغيب )) بعده (( قل لا أقول لكم عندي خزائن الله ولا أعلم الغيب ولا أقول لكم إني ملك )) فأمره الله أن يعلن للملأ أنه ليس عنده خزائن الله وأنه لا يعلم الغيب وأنه ليس بملك صلوات الله وسلامه عليه وفي هذا قطع السبيل على من يلتجؤون إلى الرسول صلى الله عليه وسلم في مهماتهم وملماتهم ويدعونه فإن هؤلاء من أعدائه وليسوا من أوليائه لأنه عليه الصلاة والسلام لو كان حيا لاستتابهم فإن تابوا وإلا قتلهم لأنهم مشركون فإن الإنسان لا يجوز أن يدعو غير الله عز وجل لا ملكا مقرّبا ولا نبيا مرسلا وهو عليه الصلاة والسلام إنما جاء لحماية التوحيد وتحقيق عبادة الله فالنبي صلى الله عليه وسلم لا يعلم الغيب وينسى ما كان قد علم من قبل ويحتاج إلى الأكل والشرب واللباس والوقاية من الأعداء وقد ( ظاهر بين درعين في غزوة أحد ) يعني لبس درعين خوفا من السلاح فهو كغيره من البشر جميع الأحكام البشرية تلحقه عليه الصلاة والسلام ولهذا قال الله له (( قل إنما أنا بشر مثلكم يوحى إليّ أنما إلهكم إله واحد )) فتأمل بشر مثلكم يعني لو لم يقل مثلكم لكفى لأنه إذا قال إنما أنا بشر علمنا بطريق القياس أن البشر كالبشر لكن قال مثلكم لا أتميز عليكم بشيء إلا بالوحي يوحى إليّ أنما إلهكم إله واحد
وفي هذا دليل على شدة الأمانة وعظمها وأن الإنسان إذا لم يبادر بأدائها فإنها قد تحبسه ولهذا قال خشيت أن تحبسني وإذا كان هذا في الأمانة فكذلك أيضا في الدين يجب على الإنسان أن يبادر بقضاء دينه إذا كان حالا إلا أن يسمح له صاحب الدين فلا بأس أن يؤخر أما إذا كان لم يسمح له فإنه يجب عليه المبادرة بأدائه حتى إن العلماء رحمهم الله قالوا إن فريضة الحج تسقط على من عليه الدين حتى يؤديه لأن الدين أمره عظيم ( كان النبي عليه الصلاة والسلام قبل أن يفتح الله عليه الفتوح إذا جيء إليه بالرجل سأل هل عليه دين فإن قالوا لا تقدم وصلى عليه وإن قالوا نعم سأل هل له وفاء إن قالوا نعم تقدم وصلى وإن قالوا لا تأخر ولم يصل ) يترك الصلاة على الميت إذا كان عليه دين ( فقدّم إليه ذات يوم رجل من الأنصار ليصلي عليه فخطى خطوات ثم قال هل عليه دين قالوا نعم يا رسول الله ديناران وليس لهما وفاء فتأخر وقال صلوا على صاحبكم فعرف ذلك في وجوه القوم ) تغيرت وجوههم كيف لم يصل عليه النبي عليه الصلاة والسلام ( فتقدم أبو قتادة رضي الله عنه وقال يا رسول الله الديناران عليّ قال حق الغريم وبرئ منهم الميت ) قال نعم ) أنا ملتزم بحق الغريم ومبرئ الميت ( فتقدم فصلى عليه ) ومع الأسف الآن أن كثيرا من الناس عليه الدين وهو قادر على الوفاء ولكنه يماطل والعياذ بالله وقد ثبت عن النبي عليه الصلاة والسلام أنه قال ( مطل الغني ظلم ) واعلم أن الدين ليس كما يفهمه الناس هو الذي يأخذ سلعة بثمن أكثر من ثمنها الدين كل ما ثبت في الذمة فهو دين كل ما ثبت في الذمة فهو دين حتى القرض السلف حتى إيجارة البيت حتى أجرة السيارة حتى أي شيء يثبت في ذمتك فهو دين عليك أن تبادر بوفائه ما دام حالا
وفي هذا دليل على جواز التوكيل في القسم قسم ما يجب على الإنسان قسمته ولهذا قال أمر عليه الصلاة والسلام أن تقسم وهذا التوكيل جائز في كل حق تدخله النيابة من حقوق الله كالحج مثلا وأداء الزكاة وحقوق الآدميين كالبيع والشراء والرهن وما أشبهها
وخلاصة هذا أو المهم من هذا الحديث هو المبادرة بفعل الخيرات لا تتهاون واعلم أنك إذا عوّدت نفسك على التهاون اعتادت عليه وإذا عوّدتها على الحزم والفعل والمبادرة اعتادت عليه واسأل الله تعالى أن يعينني وإياكم على ذكره وشكره وحسن عبادته