شرح قول الإمام النووي رحمه الله تعالى فيما نقله : " ... عن أبي هريرة رضي الله عنه عن النبي صلى الله عليه وسلم قال ( إن الدين يسر ولن يشاد الدين إلا غلبه فسددوا وقاربوا وأبشروا واستعينوا بالغدوة والروحة وشيء من الدلجة ) رواه البخاري . وفي رواية له ( سددوا وقاربوا واغدوا وروحوا وشيء من الدلجة القصد القصد تبلغوا ) . حفظ
الشيخ : بسم الله الرحمن الرحيم.
ساق المؤلف رحمه الله في باب القصد في العبادة حديث أبي هريرة رضي الله عنه أن النبي صلى الله عليه وسلم قال: ( إن الدين يسر ) ( إن الدين يسر ) يعني الدين الذي بعث الله به محمدًا صلى الله عليه وسلم والذي يدين به العباد ربهم يتعبدون له به يسر، كما قال عز وجل: (( (يُرِيدُ اللَّهُ بِكُمُ الْيُسْرَ وَلا يُرِيدُ بِكُمُ الْعُسْرَ )) وقال تعالى حين ذكر أمره بالوضوء والغسل من الجنابة والتيمم عند العدم أو المرض قال: (( مَا يُرِيدُ اللَّهُ لِيَجْعَلَ عَلَيْكُمْ مِنْ حَرَجٍ )) وقال تعالى: (( وَجَاهِدُوا فِي اللَّهِ حَقَّ جِهَادِهِ هُوَ اجْتَبَاكُمْ وَمَا جَعَلَ عَلَيْكُمْ فِي الدِّينِ مِنْ حَرَج )) فالنصوص كلها تدل على أن هذا الدين يسر وهو كذلك، فكر الإنسان في العبادات اليومية تجد أنها خمس صلوات ميسرة موزعة في أوقات يتقدمها طهر طهر للبدن وطهر للقلب، يتوضأ الإنسان عند كل صلاة ويقول: أشهد أن لا إله إلا الله وأشهد أن محمدًا عبده ورسوله، اللهم اجعلني من التوابين ومن المتطهرين، فيطهر بدنه أولًا ثم يطهر قلبه بالتوحيد ثانيًا، ثم يصلي، فكر أيضًا في الزكاة وهي الركن الثالث من أركان الإسلام تجد أنها سهلة، أولًا لا تجب إلا في الأموال النامية أو ما في حكمها، يعني لا تجب في كل مال، في الأموال النامية التي تنمو وتزيد كالتجارة أو ما في حكمها كالذهب والفضة وإن كان لا يزيد، أما ما يستعمله الإنسان في بيته وفي مركوبه فقد قال النبي عليه الصلاة والسلام: ( ليس على المؤمن في عبده ولا فرسه صدقة ) هذا ليس فيه صدقة، جميع أواني البيت وفرش البيت والخدم اللي في البيت والسيارات وغيرها مما يستعمله الإنسان لخاصة نفسه فإنه ليس فيه زكاة، هذا يسر، ثم الزكاة الواجبة يسيرة جدًّا ربع العشر، يعني واحدًا من أربعين هذا أيضًا يسير، ثم إذا أديت الزكاة فإنها لن تنقص مالك كما قال النبي عليه الصلاة والسلام: ( ما نقصت صدقة من مال ) بل تجعل فيه البركة وتنميه وتزكيه وتطهره، انظر إلى الصوم الصوم أيضًا ليس كل السنة ولا نصف السنة ولا ربع السنة، شهر واحد من اثني عشر شهرًا، ومع ذلك هو ميسر إذا مرضت فأفطر إذا سافرت فأفطر إذا كنت لا تستطيع الصوم في كل دهرك فأطعم عن كل يوم مسكينًا، انظر إلى الحج أيضًا ميسر (( وَلِلَّهِ عَلَى النَّاسِ حِجُّ الْبَيْتِ مَنِ اسْتَطَاعَ إِلَيْهِ سَبِيلاً )) ومن لم يستطع فإن كان غنيًّا بماله أناب من يحج عنه، وإن كان غير غني بماله ولا بدنه سقط عنه الحج، فالحاصل أن الدين يسر، يسر في أصل التشريع ويسر فيما إذا طرأ ما يوجب الحاجة إلى التيسير، قال النبي عليه الصلاة والسلام لعمران بن حصين: ( صل قائمًا فإن لم تستطع فقاعدًا فإن لم تستطع فعلى جنب ) فالدين يسر، ثم قال النبي عليه الصلاة والسلام: ( ولن يشاد الدين أحد إلا غلبه ) يعني لن يطلب أحد التشدد في الدين إلا غلب وهزم ومل وكل وتعب ثم استحسر فترك، هذا معنى قوله: ( لن يشاد الدين أحد إلا غلبه ) يعني أنك إذا شددت الدين وطلبت الشدة فسوف يغلبك الدين وسوف تهلك، كما قال في الحديث السابق: ( هلك المتنطعون ) ثم قال عليه الصلاة والسلام: ( سددوا وقاربوا وأبشروا ) هكذا قال النبي عليه الصلاة والسلام سدد يعني افعل الشيء على وجه السداد والإصابة فإن لم يتيسر فقارب، ولهذا قال: ( وقاربوا ) والواو هنا بمعنى أو، يعني سددوا إن أمكن، وإن لم يمكن فالمقاربة ( وأبشروا ) يعني أبشروا أنكم إذا سددتم وأصبتم أو قاربتم فأبشروا بالثواب الجزيل والخير والمعونة من الله عز وجل، وهذا يستعمله النبي عليه الصلاة والسلام كثيرًا ما يبشر أصحابه بما يسرهم، ولهذا ينبغي للإنسان أن يحرص على إدخال السرور على إخوانه ما استطاع بالبشارة والبشاشة وغير ذلك، لما حدث النبي عليه الصلاة والسلام أصحابه بأن الله تعالى يقول: ( يا آدم ) يوم القيامة: ( يا آدم فيقول: لبيك وسعديك، فيقول: أخرج من ذريتك بعث النار، أو قال: بعثًا إلى النار، قال: يا رب ما بعث النار؟ قال: من كل ألف تسعمئة وتسعة وتسعون ) تسعمئة وتسع وتسعون من بني آدم كلهم من أهل النار، وواحد في الجنة عظم ذلك على الصحابة ( وقالوا: يا رسول الله أينا ذلك الواحد؟ فقال: أبشروا فإنكم في أمتين ما كانتا في شيء إلا كثرتاه يأجوج ومأجوج، ثم قال: إني لأرجو أن تكونوا ربع أهل الجنة، ثلث أخل الجنة، شطر أهل الجنة حتى كبر الصحابة فرحًا بذلك ) فقال: ( أبشروا ) وهكذا ينبغي الإنسان أن يستعمل البشرى لإخوانه ما استطاع، ولكن أحيانًا يكون الإنذار خيرًا لأخيه المسلم، قد يكون أخوه المسلم في جانب تفريط في واجب أو انتهاك لمحرم فيرى أن من المصلحة أن ينذره ويخوفه، فالإنسان ينبغي له أن يستعمل الحكمة ولكن يغلب جانب البشرى، لو جاءه رجل مثلًا وقال: إنه أسرف على نفسه وفعل معاصي كبيرة وهل له من توبة؟ ينبغي أن يقول نعم أبشر أبشر إذا تبت تاب الله عليك، فيدخل عليه السرور ويدخل عليه الأمل حتى لا ييأس من رحمة الله عز وجل، الحاصل أن الرسول قال: ( سددوا وقاربوا وأبشروا، واستعينوا بالغدوة والروحة وشيء من الدلجة، والقصد القصد تبلغوا ) يعني معناه: استعينوا في أطراف النهار أوله وآخره، وشيء من الليل والقصد القصد تبلغوا هذا يحتمل أن الرسول صلى الله عليه وسلم أراد أن يضرب مثلا للسفر المعنوي بالسفر الحسي فإن الإنسان المسافر حسًّا ينبغي أن يكون سيره في أول النهار وفي آخر النهار وفي شيء من الليل، لأن ذلك هو الوقت المريح للراحلة وللمسافر، ويحتمل أنه أراد بذلك أن أول النهار وآخره محل للتسبيح، كما قال تعالى: (( يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا اذْكُرُوا اللَّهَ ذِكْراً كَثِيراً وَسَبِّحُوهُ بُكْرَةً وَأَصِيلاً )) وكذلك الليل محل للقيام، على كل حال إن الرسول عليه الصلاة والسلام أمرنا ألا نجعل أوقاتنا كلها دأبًا في العبادة لأن ذلك يؤدي إلى الملل.