تتمة شرح قول الإمام النووي رحمه الله تعالى فيما نقله : " ... عن ابن عباس رضي الله عنهما قال قام فينا رسول الله صلى الله عليه وسلم بموعظة فقال ( أيها الناس إنكم محشورون إلى الله تعالى حفاة عراة غرلا (( كما بدأنا أول خلق نعيده وعدا علينا إنا كنا فاعلين )) ألا وإن أول الخلائق يكسى يوم القيامة إبراهيم صلى الله عليه وسلم ألا وإنه سيجاء برجال من أمتي فيؤخذ بهم ذات الشمال فأقول يا رب أصحابي فيقال إنك لا تدري ما أحدثوا بعدك فأقول كما قال العبد الصالح (( كنت عليهم شهيدا ما دمت فيهم )) إلى قوله (( العزيز الحكيم )) فيقال لي إنهم لم يزالوا مرتدين على أعقابهم منذ فارقتهم ) متفق عليه ... " . حفظ
الشيخ : سبق لنا الكلام على حديث عبد الله بن عباس رضي الله عنهما فيما وعظهم به رسول الله صلى الله عليه وسلم وقال: ( إنكم ستحشرون يوم القيامة حفاة عراة غرلًا ) وذكرنا أن الأغرل هو الذي بقيت عليه جلدة الحشفة أي لم يختن، والختان اختلف العلماء في وجوبه، فمنهم من قال: إنه واجب على الذكور والإناث وأنه يجب أن تختن البنت كما يختن الولد، ومن العلماء من قال: إنه لا يجب الختان لا على الرجال ولا على النساء وأن الختان من الفطرة المستحبة وليس من الفطرة الواجبة، ومنهم من توسط بين القولين فقال: الختان واجب في حق الذكور وسنة في حق النساء، وهذا القول أوسط الأقوال وأعدلها، أنه واجب في حق الرجال لأن الرجل إذا بقيت هذه الجلدة فوق حشفته فإنها ستكون مجمعًا للبول، فيكون في ذلك تلويث للرجل، وربما يحدث إثر هذا التهابات فيما بين الجلدة والحشفة ويتضرر الإنسان، فالصحيح أن الختان واجب على الذكور وسنة في حق الإناث، وهو أعدل الأقوال وأحسنها، ثم ذكر النبي صلى الله عليه وسلم: ( أن أول من يكسى إبراهيم عليه الصلاة والسلام ) ثم ذكر ( أنه يؤتى برجال من أمته فيؤخذ بهم ذات الشمال ) أي: إلى طريق أهل النار والعياذ بالله، فيقول النبي صلى الله عليه وسلم: ( أصحابي ) يعني: يشفع إلى الله سبحانه وتعالى فيهم ( فيقال له: إنك لا تدري ماذا أحدثوا بعدك فأقول ) فأقول: يقوله النبي صلى الله عليه وسلم: ( كما قال العبد الصالح ) يعني به عيسى ابن مريم حين يقول يوم القيامة إذا قال الله تعالى له: (( أَأَنْتَ قُلْتَ لِلنَّاسِ اتَّخِذُونِي وَأُمِّيَ إِلَهَيْنِ مِنْ دُونِ اللَّهِ )) كما يزعم النصارى الذين يقولون: إنهم متبعون له (( أَأَنْتَ قُلْتَ لِلنَّاسِ اتَّخِذُونِي وَأُمِّيَ إِلَهَيْنِ مِنْ دُونِ اللَّهِ قَالَ سُبْحَانَكَ مَا يَكُونُ لِي أَنْ أَقُولَ مَا لَيْسَ لِي بِحَقٍّ )) لأن الألوهية ليست حقًّا لأحد إلا الله رب العالمين، (( ما يَكُونُ لِي أَنْ أَقُولَ مَا لَيْسَ لِي بِحَقٍّ إِنْ كُنْتُ قُلْتُهُ فَقَدْ عَلِمْتَهُ تَعْلَمُ مَا فِي نَفْسِي وَلا أَعْلَمُ مَا فِي نَفْسِكَ إِنَّكَ أَنْتَ عَلَّامُ الْغُيُوبِ * مَا قُلْتُ لَهُمْ إِلَّا مَا أَمَرْتَنِي بِهِ أَنِ اعْبُدُوا اللَّهَ رَبِّي وَرَبَّكُمْ وَكُنْتُ عَلَيْهِمْ شَهِيداً مَا دُمْتُ فِيهِمْ فَلَمَّا تَوَفَّيْتَنِي كُنْتَ أَنْتَ الرَّقِيبَ عَلَيْهِمْ وَأَنْتَ عَلَى كُلِّ شَيْءٍ شَهِيدٌ )) فإذا قيل للنبي صلى الله عليه وسلم يوم القيامة: ( إنك لا تدري ماذا أحدثوا بعدك ) قال: (( وَكُنْتُ عَلَيْهِمْ شَهِيداً مَا دُمْتُ فِيهِمْ فَلَمَّا تَوَفَّيْتَنِي كُنْتَ أَنْتَ الرَّقِيبَ عَلَيْهِمْ وَأَنْتَ عَلَى كُلِّ شَيْءٍ شَهِيدٌ )) ثم يقال للرسول عليه الصلاة والسلام: ( إنهم ما زالوا مرتدين على أعقابهم منذ فارقتهم ) فأقول: ( سحقًا سحقًا ) قوله: ( إنهم لم يزالوا مرتدين على أعقابهم منذ فارقتهم ) تمسك به الرافضة الذين قالوا إن الصحابة كلهم ارتدوا عن الإسلام والعياذ بالله، ومنهم أبو بكر وعمر وعثمان أما علي وآل البيت فهم لم يرتدوا على زعمهم، ولا شك أنهم في هذا كاذبون وأن الخلفاء الأربعة كلهم لم يحصل منهم ردة بإجماع المسلمين، وكذلك عامة أصحاب النبي عليه الصلاة والسلام لم يحصل منهم ردة بإجماع المسلمين، إلا قوم من الأعراب كانوا حديثي عهد بالإسلام لما مات النبي عليه الصلاة والسلام افتتنوا وارتدوا على أدبارهم ومنعوا الزكاة حتى قاتلهم الخليفة الراشد أبو بكر رضي الله عنه وعادوا إلى الإسلام، عاد أكثرهم ولكن الرافضة من شدة حنقهم وبغضهم لأصحاب النبي صلى الله عليه وسلم تمسكوا بظاهر هذا الحديث، أما أهل السنة والجماعة فقالوا: إن هذا الحديث عام يراد به الخاص، وما أكثر العام الذي يراد به الخاص، فقوله: ( أصحابي ) يعني: ليسوا كلهم بل الذين ارتدوا على أدبارهم، لأن هكذا قيل للرسول عليه الصلاة والسلام: ( إنهم لم يزالوا مرتدين على أعقابهم منذ فارقتهم ) ومعلوم أن الخلفاء الراشدين وعامة أصحاب النبي عليه الصلاة والسلام لم يرتدوا بالإجماع ولو قدر أنهم ارتدوا لم يبق لنا ثقة بالشريعة، ولهذا كان الطعن في الصحابة يتضمن الطعن في شريعة الله، ويتضمن الطعن برسول الله صلى الله عليه وسلم، ويتضمن الطعن بالله رب العالمين، الذين يطعنون في الصحابة يتضمن طعنهم أربعة محاذير والعياذ بالله ومنكرات عظيمة، الطعن في الصحابة، والطعن في الشريعة، والطعن في النبي، والطعن في رب العالمين، لكنهم قوم لا يفقهون صم بكم عمي فهم لا يعقلون، أما كونه طعن في الشريعة فلأن الذين نقلوا إلينا الشريعة هم الصحابة، وإذا كانوا مرتدين والشريعة جاءت من طريقهم فإنها لا تقبل لأن الكافر لا يقبل خبره، بل الفاسق (( يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا إِنْ جَاءَكُمْ فَاسِقٌ بِنَبَأٍ فَتَبَيَّنُوا ))
وأما كونه طعنًا برسول الله فيقال: إذا كان أصحاب النبي بهذه المثابة من الكفر والفسوق فهو طعن بالرسول لأن القرين على دين قرينه، وكل إنسان يعاب بقرينه إذا كان قرينه سيئًا يقال: فلان ما فيه خير قرناؤه فلان وفلان وفلان، فالطعن في الأصحاب طعن في المصاحب، وأما كونه طعن بالله رب العالمين فظاهر جدًا أن يجعل أفضل الرسالات وأعمها وأحسنها على يد هذا الرجل الذي هؤلاء أصحابه، وأيضًا أن يجعل أصحاب هذا النبي الذي هو أفضل الأنبياء صلوات الله وسلامه عليه مثل هؤلاء الأصحاب الذين زعمت الرافضة أنهم ارتدوا على أدبارهم، ولهذا نعتقد أن هذه فرية عظيمة على الصحابة رضي الله عنهم وعدوان على الله ورسوله وشريعة الله أن يقدح في الصحابة حملة الشريعة رضوان الله عليهم، ولا شك أننا نُكِنُّ الحب لجميع أصحاب النبي صلى الله عليه وسلم، ولآل النبي صلى الله عليه وسلم المؤمنين ونرى أن لآله المؤمنين حقين: حق الإيمان، وحق قربهم من رسول الله صلى الله عليه وسلم (( قُلْ لا أَسْأَلُكُمْ عَلَيْهِ أَجْراً إِلَّا الْمَوَدَّةَ فِي الْقُرْبَى )) يعني: إلا أن تودوا قرابتي على أحد التفاسير، والتفسير الآخر: (( إِلَّا الْمَوَدَّةَ فِي الْقُرْبَى )) يعني إلا أن تودوني لقرابتي منكم
وعلى كل حال هذا الحديث ليس فيه مطمع للرافضة في القدح في أصحاب النبي صلى الله عليه وسلم، لأنه لا يصدق إلا على من ارتد أما من بقوا على الإسلام وأجمع المسلمون على هدايتهم ودرايتهم فإنهم لا يدخلون في هذا الحديث، ويقال: إن الذي خصص هذا الحديث إجماع المسلمين على أنهم لم يرتدوا وإنما ارتدت طائفة قاتلهم أبو بكر رضي الله عنه ورجع أكثرهم إلى الإسلام، والله الموفق.