شرح قول الإمام النووي رحمه الله تعالى فيما نقله : " ... عن جابر رضي الله عنه قال كان رسول الله صلى الله عليه وسلم إذا خطب احمرت عيناه وعلا صوته واشتد غضبه حتى كأنه منذر جيش يقول صبحكم ومساكم ويقول ( بعثت أنا والساعة كهاتين ويقرن بين أصبعيه السبابة والوسطى ) ويقول ( أما بعد فإن خير الحديث كتاب الله وخير الهدي هدي محمد صلى الله عليه وسلم وشر الأمور محدثاتها وكل بدعة ضلالة ) ثم يقول ( أنا أولى بكل مؤمن من نفسه من ترك مالا فلأهله ومن ترك دينا أو ضياعا فإلي وعلي ) رواه مسلم ... " . حفظ
الشيخ : بسم الله الرحمن الرحيم .
قال المؤلف رحمه الله تعالى فيما نقله عن جابر بن عبد الله رضي الله عنه في باب التحذير من البدع قال: ( كان النبي صلى الله عليه وسلم إذا خطب ) يعني يوم الجمعة ( احمرت عيناه وعلا صوته واشتد غضبه ) وإنما كان يفعل هذا لأنه أقوى في التأثير على السامع، فكان صلى الله عليه وسلم يكون على هذه الحال للمصلحة، وإلا فمن المعلوم صلى الله عليه وسلم كان أحسن الناس خلقًا وألينهم عريكة، لكن لكل مقام مقال، فالخطبة ينبغي أن تحرك القلوب وتؤثر في النفوس إما في موضوعها وإما في كيفية أدائها وإما في هذا وهذا، إذا حصل وكان يقول: ( بعثت أنا والساعة كهاتين ويقرن بين السبابة والوسطى ) يعني: بين الأصبعين السبابة وهي التي بين الوسطى والإبهام والوسطى، وأنت إذا قرنت بينهما وجدتهما متجاورتين، ووجدت أنه ليس بينهما إلا فرق يسير، ليس بين الوسطى والسبابة إلا فرق يسير مقدار الظفر أو نصف الظفر، والمعنى أن أجل الدنيا قريب وأنه ليس ببعيد، وهذا كما فعل صلى الله عليه وسلم ذات يوم خطب الناس في آخر النهار والشمس على رؤوس النخل فقال: ( إنه لم يبق من دنياكم إلا مثل ما بقي من هذا اليوم ) فإذا كان الأمر كذلك والنبي صلى الله عليه وسلم الآن مات له ألف وأربعمئة سنة ولم تقم القيامة دل هذا على أن الدنيا طويلة الأمد، ولكن ما يقدره بعض الجلوجيين من عمر الدنيا الماضي بملايين الملايين هذا خرص لا يصدق ولا يكذب فهو كأخبار بني إسرائيل، لأنه ليس لدينا علم من كتاب الله أو سنة رسوله صلى الله عليه وسلم في مقدار ما مضى من الدنيا ولا في مقدار ما بقي منها على وجه التحديد، وإنما هو كما ضرب النبي صلى الله عليه وسلم هذه الأمثال، والشيء الذي ليس عليه دليل من كتاب ولا سنة وهو من أخبار ما مضى فإنه ليس مقبولًا، وإنما ينقسم إلى ثلاثة أقسام:
القسم الأول: ما شهد الشرع بصدقه فهذا يقبل لشهادة الشرع به،
والثاني: ما شهد الشرع بكذبه فهذا يرد لشهادة الشرع بكذبه،
والثالث: ما ليس فيه هذا ولا هذا فهذا يتوقف فيه إما أن يكون حقًّا وإما أن يكون باطلًا، ويدل لهذا قوله تعالى: (( أَلَمْ يَأْتِكُمْ نَبَأُ الَّذِينَ مِنْ قَبْلِكُمْ قَوْمِ نُوحٍ وَعَادٍ وَثَمُودَ وَالَّذِينَ مِنْ بَعْدِهِمْ لا يَعْلَمُهُمْ إِلَّا اللَّهُ )) فإذا حصر العلم جل وعلا في نفسه فإنه لا يتلقى علم هؤلاء إلا من وحيه عز وجل، لا يعلمهم إلا الله فأي أحد يدعي شيئًا فيما مضى مما يتعلق بالبشرية أو بطبيعة الأرض أو الأفلاك أو غيرها فإننا لا نصدقه ولا نكذبه، بل نقسم ما أخبر به إلى الأقسام السابقة الثلاثة، أما المستقبل فالمستقبل ينقسم أيضًا إلى أولًا: ما أخبر الشرع بوقوعه فهذا لا بد أن يقع، مثل أخبار يأجوج ومأجوج وأخبار الدجال ونزول عيسى ابن مريم وأشباه ذلك مما ثبت في الكتاب والسنة،
والثاني: ما لم يرد به كتاب ولا سنة فهذا القول فيه من التخمين والظن بل لا يجوز لأحد أن يصدق فيما يستقبل لأنه من علم الغيب ولا يعلم الغيب إلا الله عز وجل، فالحاصل أن النبي عليه الصلاة والسلام قال: ( بعثت أنا والساعة كهاتين وقال بالسبابة والوسطى ) السبابة هي الإصبع التي بين الإبهام والوسطى تسمى السبابة، لأن الإنسان إذا أراد أن يسب أحدًا أشار إليه بها أنت يا فلان اللي فيك ما لفيك ويشير بها، وتسمى السباحة أيضًا لأن الإنسان عند الإشارة إلى تعظيم الله عز وجل يرفعها ويشير بها إلى السماء، ثم يقول: ( أما بعد فإن خير الحديث كتاب الله وخير الهدي هدي محمد وشر الأمور محدثاتها وكل بدعة ضلالة ) وقد سبق الكلام على هذه الجمل، ثم يقول: ( أنا أولى بالمؤمنين من أنفسهم ) كما قال ربه عز وجل: (( النَّبِيُّ أَوْلَى بِالْمُؤْمِنِينَ مِنْ أَنْفُسِهِمْ )) فهو أولى بك من نفسك وهو بالمؤمنين رؤوف رحيم عليه الصلاة والسلام، ثم يقول: ( من ترك مالاً فلأهله ) يعني: من ترك من الأموات مالًا فلأهله يرثونه حسب ما جاء في كتاب الله وسنة الرسول ( ومن ترك دَينًا أو ضياعًا ) يعني أولادًا صغارًا يضيعون ( فإلي وعلي ) يعني فأمرهم إلي أنا وليهم والدين عليّ أنا أقضيه، هكذا كان صلى الله عليه وسلم حين فتح الله عليه، أما قبل ذلك فكان يؤتى بالرجل ليصلي عليه فيسأل: ( هل عليه دين؟ ) إن قالوا: نعم وليس له وفاء ترك الصلاة عليه ( فجيء إليه في يوم من الأيام برجل من الأنصار فتقدم ليصلي عليه ثم سأل عليه دين؟ قالوا: نعم عليه ديناران فتأخر وقال: صلوا على صاحبكم، فعرف ذلك في وجوه القوم ثم قام أبو قتادة رضي الله عنه وقال: الديناران عليّ يا رسول الله، فالتزمهما أبو قتادة رضي الله عنه، فقال النبي عليه الصلاة والسلام: حق الغريم وبرئ منه الميت؟ قال: نعم فتقدم فصلى ) وفي هذا دليل على عظم الدَّين وأنه لا ينبغي للإنسان أن يتدين إلا إذا دعت الضرورة إلى ذلك، لا يتدين لا لزواج ولا لبناء بيت ولا لكماليات في البيت كل هذا من السفه، يقول الله عز وجل: (( وَلْيَسْتَعْفِفِ الَّذِينَ لا يَجِدُونَ نِكَاحاً حَتَّى يُغْنِيَهُمُ اللَّهُ مِنْ فَضْلِهِ )) هذا النكاح فما بالك بما هو دونه بكثير، كثير من الجهال يتدين ويشتري مثلًا فراش فراشًا لإيش؟ للدرج أبي أفرش الدرج مثلما فرش فلان وفلان، فراش للساحة أبس أشتري باب قراج ينفتح على الكهرب أو ما أشبه ذلك، مع أنه فقير يأخذه بالدَّين يعني بالدَّين ما هو لازم يروح ياخذ سيارة، حتى لو اشتريت شيئًا بثمن مؤجل فهو دين، حتى لو اشتريت شيئًا بثمن لم تسلمه فالثمن في ذمتك دين، لأن الدين عند العلماء كل ما ثبت في الذمة من ثمن بيع أو قرض أو أجرة أو غير ذلك، فإياكم والديون احذروها احذروها فإنها تهلككم إلا شيئًا ضروري هذا شيء آخر، لكن ما دمت في غنى لا تستدن، كثير من الناس مساكين يستدين مثلًا أربعين ألف فإذا حل الأجل قال: ما عندي شيء طيب استدن، استدان أربعين ألفا اللي عليه يبي يستدين لها ستين ألف، ثم يستدين السنة الثانية ثم تتراكم عليه الديون الكثيرة من حيث لا يشعر، والله الموفق.