شرح قول الإمام النووي رحمه الله تعالى فيما نقله : " ... وعن أبي بكرة نفيع بن الحارث رضي الله عنه عن النبي صلى الله عليه وسلم قال ( إن الزمان قد استدار كهيئته يوم خلق الله السماوات والأرض السنة اثنا عشر شهرا منها أربعة حرم ثلاث متواليات ذو القعدة وذو الحجة والمحرم ورجب مضر الذي بين جمادى وشعبان أي شهر هذا قلنا الله ورسوله أعلم فسكت حتى ظننا أنه سيسميه بغير اسمه قال أليس ذا الحجة ؟ قلنا بلى قال فأي بلد هذا ؟ قلنا الله ورسوله أعلم فسكت حتى ظننا أنه سيسميه بغير اسمه قال أليس البلدة ؟ قلنا بلى قال فأي يوم هذا ؟ قلنا الله ورسوله أعلم فسكت حتى ظننا أنه سيسميه بغير اسمه قال أليس يوم النحر قلنا بلى قال فإن دماءكم وأموالكم وأعراضكم عليكم حرام كحرمة يومكم هذا في بلدكم هذا في شهركم هذا وستلقون ربكم فيسألكم عن أعمالكم ألا فلا ترجعوا بعدي كفارا يضرب بعضكم رقاب بعض ألا ليبلغ الشاهد الغائب فلعل بعض من يبلغه أن يكون أوعى له من بعض من سمعه ثم قال ألا هل بلغت ألا هل بلغت ؟ قلنا نعم قال اللهم اشهد ) متفق عليه ... " . حفظ
الشيخ : بسم الله الرحمن الرحيم .
قال المؤلف رحمه الله تعالى فيما نقله عن أبي بكرة نفيع بن الحارث رضي الله عنه أن النبي صلى الله عليه وسلم خطبهم يوم النحر وذلك في حجة الوداع فأخبرهم عليه الصلاة والسلام ( أن الزمان قد استدار كهيئته يوم خلق الله السموات والأرض ) يعني: أن الزمان وإن كان قد غُيِّر وبُدِّل فيه كما كانوا يفعلون في الجاهلية، يفعلون النسيء يحلون الحرام ويحرمون الحلال، يعني يجعلون الأشهر الحرم في أشهر أخرى فيحلون الشهر الحرام ويحرمون الشهر الحلال، ولكن صادفت تلك السنة أن النسيء صار موافقًا لما شرعه الله عز وجل في الأشهر الحرم، ثم بين عليه الصلاة والسلام أن عدة الشهور اثنا عشر شهرًا وهي: المحرم وصفر وربيع الأول وربيع الثاني وجمادى الأولى وجمادى الثانية ورجب وشعبان ورمضان وشوال وذو القعدة وذو الحجة، هذه هي الأشهر الاثنا عشر شهرًا التي جعلها الله أشهرًا لعباده منذ خلق السموات والأرض، كانوا في الجاهلية يحلون المحرم ويحرمون صفر، وبين النبي عليه الصلاة والسلام أن هذه الاثنا عشر شهرًا منها أربعة حرم، ثلاثة متوالية وواحد منفرد، الثلاثة المتوالية هي: ذو القعدة وذو الحجة والمحرم، جعلها الله تعالى أشهرًا محرمة يحرم فيها القتال ولا يعتدي أحد على أحد، لأن هذه الأشهر هي أشهر سير الناس إلى حج بيت الله، فجعلها الله عز وجل محرمة لئلا يقع القتال في هذه الأشهر والناس سائرون إلى بيت الله الحرام، وهذه من حكمة الله عز وجل، والصحيح أن القتال ما زال محرمًا وأنه لم ينسخ إلى الآن وأنه يحرم ابتداء القتال فيها ( ورجب مضر ) يقوله النبي عليه الصلاة والسلام، الرابع: ( رجب مضر الذي بين جمادى وشعبان ) وكانوا في الجاهلية يؤدون العمرة فيه فيجعلون شهر رجب للعمرة، والأشهر الثلاثة للحج، فصار محرمًا هذا الشهر يحرم فيه القتال كما يحرم في ذي القعدة وذي الحجة والمحرم، إذًا الأشهر السنوية التي جعلها الله لعبادة اثنا عشر شهرًا، منها أربعة حرم كما في القرآن الكريم ذو القعدة وذو الحجة المحرم ورجب، ثم سألهم النبي عليه الصلاة والسلام: أي شهر هذا؟ وأي بلد هذا؟ وأي يوم هذا؟ سألهم عن ذلك من أجل استحضار هممهم وانتباههم لأن الأمر أمر عظيم، فسألهم: ( أي شهر هذا؟ قالوا: الله ورسوله أعلم ) لأنهم استبعدوا أن يسأل النبي صلى الله عليه وسلم عن الشهر وهو معروف أنه ذو الحجة، ولكن من أدبهم رضي الله عنهم أنهم لم يقولوا: الأمر معلوم هذا شهر ذي الحجة، من أدبهم أنهم قالوا: الله ورسوله أعلم، ثم سكت لأجل أن الإنسان إذا تكلم ثم سكت انتبه الناس: ما الذي أسكته؟ وهذه طريقة متبعة في الإلقاء أن الإنسان إذا رأى من الناس الذين حوله عدم إنصات يسكت حتى ينتبهوا، لأن الكلام إذا كان مسترسلًا يمكن يحصل غفلة، لكن إذا توقف فإنهم سيقولون ليش لماذا وقف؟
سكت النبي عليه الصلاة والسلام، يقول أبو بكرة: ( حتى ظننا أنه سيسميه بغير اسمه، ثم قال: أليس ذا الحجة؟ قالوا: بلى، ثم قال عليه الصلاة والسلام: أي بلد هذا؟ قالوا: الله ورسوله أعلم ) هم يعلمون أنه مكة، لكن لأدبهم واحترامهم لرسول الله صلى الله عليه وسلم لم يقولوا: هذا شيء معلوم يا رسول الله، كيف تسأل عنه؟ بل قالوا: الله ورسوله أعلم، ثم سكت حتى ظنوا أنه سيسميه بغير اسمه، فقال: أليس البلدة؟ ) والبلدة اسم من أسماء مكة ( قالوا: بلى، ثم قال: أي يوم هذا؟ قالوا: الله ورسوله أعلم ) مثلما قالوا بالأول، قال: أليس يوم النحر؟ قالوا: بلى يا رسول الله ) وهم يعملون أن مكة حرام وأن شهر ذي الحجة حرام وأن يوم النحر حرام يعني كلها حرم محترمة، فقال عليه الصلاة والسلام: ( إن دماءكم وأموالكم وأعراضكم عليكم حرام كحرمة يومكم هذا في بلدكم هذا في شهركم هذا ) فأكد عليه الصلاة والسلام تحريم هذه الثلاثة الدماء والأموال والأعراض وأنها محرمة ( لا يحل دم امرئ مسلم إلا بإحدى ثلاثة: الثيب الزاني، والنفس بالنفس، والتارك لدينه المفارق للجماعة ) الأموال أيضًا لا يحل مال امرئ مسلم إلا بطيب نفس منه (( يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لا تَأْكُلُوا أَمْوَالَكُمْ بَيْنَكُمْ بِالْبَاطِلِ إِلَّا أَنْ تَكُونَ تِجَارَةً عَنْ تَرَاضٍ مِنْكُمْ )) الأعراض محترمة لا يحل لمسلم أن يغتاب أخاه أو أن يقذفه، بل إن القاذف إذا قذف شخصًا عفيفًا بعيدًا عن التهمة وقال: يا زاني أو أنت زاني أو أنت لوطي أو ما أشبه ذلك، فإما أن يأتي بأربعة شهداء يشهدون على الزنا صريحًا وإلا فإنه يعاقب بثلاث عقوبات، هذا القاذف يعاقب بثلاث عقوبات، العقوبة الأولى: أن يجلد ثمانين جلدة، والعقوبة الثانية: ألا تقبل له شهادة أبدًا، كلما شهد عند القاضي ترد شهادته سواء شهد بالأموال أو شهد بالدماء أو شهد برؤية الهلال أو شهد بأي شيء آخر يرفض القاضي شهادته ويردها، العقوبة الثالثة - يرحمك الله - العقوبة الثالثة: الفسق أن يكون فاسقًا بعد أن كان عدلًا، فلا يزوج بنته ولا أخته ولا يتقدم إمامًا في المسلمين عند كثير من العلماء، ولا يولى أي ولاية لأنه صار فاسقًا، هذه عقوبة من يرمي شخصًا بالزنا أو باللواط، إلا أن يأتي بأربعة شهداء، قال الله تعالى: (( لولا جَاءُوا عَلَيْهِ بِأَرْبَعَةِ شُهَدَاءَ فَإِذْ لَمْ يَأْتُوا بِالشُّهَدَاءِ فَأُولَئِكَ عِنْدَ اللَّهِ هُمُ الْكَاذِبُونَ )) حتى لو فرض هذا الرجل من أصدق الناس ولم يأت بأربعة شهداء فإنه يجلد ثمانين جلدة ( ولهذا شهد أربعة من الرجال على رجل شهدوا على رجل بأنه زنى عند عمر بن الخطاب، أربعة شهدوا على رجل بأنه زنا، فجاء بهم عمر فسألهم قال: تشهد أنه زنى؟ قال: نعم، قال: تشهد أنك رأيت ذكره في فرجها غائبًا كما يغيب المرود في المكحلة؟ قال : نعم، جاء بالثاني قال: نعم، جاء بالثالث قال: نعم، فجاء بالرابع فتوقف توقف قال: أنا لا أشهد بالزنا لكني رأيت أمرًا منكرًا، رأيت رجلًا على امرأة يتحرك كتحرك المجامع لكن لا أشهد، فجلد الثلاثة الأولين جلدهم على ثمانين جلدة ) لأنه تبين أنهم كذبة وأطلق الثالث، فالأعراض من أشد الأشياء حرمة ولهذا كما سمعتم قال الله تعالى: (( وَالَّذِينَ يَرْمُونَ الْمُحْصَنَاتِ ثُمَّ لَمْ يَأْتُوا بِأَرْبَعَةِ شُهَدَاءَ فَاجْلِدُوهُمْ ثَمَانِينَ جَلْدَةً )) هذه واحدة (( وَلا تَقْبَلُوا لَهُمْ شَهَادَةً أَبَداً )) اثنين (( وَأُولَئِكَ هُمُ الْفَاسِقُونَ)) ثلاثة (( إِلَّا الَّذِينَ تَابُوا مِنْ بَعْدِ ذَلِكَ وَأَصْلَحُوا فَإِنَّ اللَّهَ غَفُورٌ رَحِيمٌ )) يعني فلا يكونوا فساقًا، لكن بشرط التوبة والإصلاح ما يكفي أن يقول: أنا تائب حتى ننظر هل الرجل أصلح أو لم يصلح؟ إذًا جدير بما كان هذه حال حاله أن يؤكده النبي صلى الله عليه وسلم في هذه الخطبة العظيمة في مشهد الصحابة في يوم النحر في منى يقول عليه الصلاة والسلام: ( إن دماءكم وأموالكم وأعراضكم عليكم حرام كحرمة يومكم هذا في بلدكم هذا في شهركم هذا ) ثم قال: ( ألا لا ترجعوا بعدي كفارًا يضرب بعضكم رقاب بعض ) لأن المسلمين لو صار يضرب بعضهم رقاب بعض صاروا كفارًا، كفارًا لأنه لا يستحل دم المسلم إلا الكافر، هل يمكن لمسلم أن يشهر السلاح على أخيه؟ لا، لكن الكافر يشهر السلاح على المسلم، ولهذا جعل النبي عليه الصلاة والسلام المسلمين إذا اقتتلوا وصفهم بأنهم كفار ( ألا لا ترجعوا بعدي كفارًا يضرب بعضكم رقاب بعض ) وهذه المسألة بحسب النصوص الأخرى فيها تفصيل: إن قاتل المسلم مستحلًا لقتله بغير إذن شرعي فهو كافر كفرًا مخرجًا عن الملة، وإن قاتله بتأويل أو لقصد رئاسة أو لقصد سلطان فهذا لا يكفر كفرًا كفر ردة، ولكنه كفر دون كفر، ودليل ذلك قوله تعالى: (( وَإِنْ طَائِفَتَانِ مِنَ الْمُؤْمِنِينَ اقْتَتَلُوا فَأَصْلِحُوا بَيْنَهُمَا فَإِنْ بَغَتْ إِحْدَاهُمَا عَلَى الْأُخْرَى فَقَاتِلُوا الَّتِي تَبْغِي حَتَّى تَفِيءَ إِلَى أَمْرِ اللَّهِ فَإِنْ فَاءَتْ فَأَصْلِحُوا بَيْنَهُمَا بِالْعَدْلِ وَأَقْسِطُوا إِنَّ اللَّهَ يُحِبُّ الْمُقْسِطِينَ * إِنَّمَا الْمُؤْمِنُونَ إِخْوَةٌ فَأَصْلِحُوا بَيْنَ أَخَوَيْكُمْ )) وهذا هو الجمع بين هذه الآية وبين الحديث فيقال: إن تقاتل المسلمون مستحلًا كل واحد دم أخيه فهو كافر كفرًا مخرجًا عن الملة، وإن كان لرئاسة أو عصبية أو حمية أو ما أشبه ذلك فإنه لا يكفر كفر ردة، بل يكون كفره كفرًا دون كفر وعليه أن يتوب ويصلح، ثم قال عليه الصلاة والسلام: ( ألا هل بلغت؟ ) يسأل الصحابة قالوا: ( نعم قال: ألا هل بلغت؟ قالوا: نعم، ألا هل بلغت؟ قالوا: نعم ) فتأمل كيف يقرر النبي عليه الصلاة والسلام أنه بلغ في المواطن العظيمة الكثيرة الجمع في عرفة خطبهم عليه الصلاة والسلام وقال: ( ألا هل بلغت ؟ قالوا : نعم فجعل يرفع إصبعه إلى السماء وينكتها إلى الناس يقول: اللهم اشهد ) يعني اشهد عليهم أني بلغتهم، وكذلك أشهد ربه على أنه بلغ أمته وأقروا بذلك في يوم النحر، ونحن نشهد ونشهد الله وملائكته ومن سمعنا من خلقه أن نبينا صلى الله عليه وسلم بلغ البلاغ المبين، وأنه ترك أمته على المحجة البيضاء، وأنه ما بقي شيء من أمور الدين أو الدنيا تحتاجه الأمة إلا بينه عليه الصلاة والسلام، ولكن الخطأ من ممن يبلغه الخبر هو الذي يكون قاصرًا في فهمه، وقد يكون له نية سيئة فيحرم الصواب، وقد يكون هناك أسباب أخرى وإلا فالرسول عليه الصلاة والسلام بلغ بلاغًا تامًّا كاملًا، ثم أمر عليه الصلاة والسلام أن يبلغ الشاهد الغائب يعني من شهده وسمع خطبته أن يبلغ الأمة، وأخبر عليه الصلاة والسلام أنه ربما يكون مبلغ أوعى للحديث من السامع، وهذه الوصية من الرسول عليه الصلاة والسلام وصية لمن حضر في ذلك اليوم ووصية لمن سمعه حديثه إلى يوم القيامة، فعلينا إذا سمعنا حديثًا عن الرسول عليه الصلاة والسلام أن نبلغه إلى الأمة، علينا ذلك نحن محملون بأن نبلغ، نحن منهيون أن نكون كاليهود الذين حملوا التوراة ثم لم يحملوها، وقد وصفهم الله بأبشع وصف فقال: (( مَثَلُ الَّذِينَ حُمِّلُوا التَّوْرَاةَ ثُمَّ لَمْ يَحْمِلُوهَا كَمَثَلِ الْحِمَارِ يَحْمِلُ أَسْفَاراً )) الحمار إذا حمل أسفارًا يعني كتبًا هل ينتفع منها؟ الجواب: ينتفع؟
الطالب : لا.
الشيخ : لا ينتفع، إذا كان الحمار يحمل أسفارًا لا ينتفع منها فالذي يحمل القرآن أو السنة ولا ينتفع منها كمثل الحمار يحمل أسفارًا، نسأل الله أن يرزقنا وإياكم العلم النافع والعمل الصالح.
قال المؤلف رحمه الله تعالى فيما نقله عن أبي بكرة نفيع بن الحارث رضي الله عنه أن النبي صلى الله عليه وسلم خطبهم يوم النحر وذلك في حجة الوداع فأخبرهم عليه الصلاة والسلام ( أن الزمان قد استدار كهيئته يوم خلق الله السموات والأرض ) يعني: أن الزمان وإن كان قد غُيِّر وبُدِّل فيه كما كانوا يفعلون في الجاهلية، يفعلون النسيء يحلون الحرام ويحرمون الحلال، يعني يجعلون الأشهر الحرم في أشهر أخرى فيحلون الشهر الحرام ويحرمون الشهر الحلال، ولكن صادفت تلك السنة أن النسيء صار موافقًا لما شرعه الله عز وجل في الأشهر الحرم، ثم بين عليه الصلاة والسلام أن عدة الشهور اثنا عشر شهرًا وهي: المحرم وصفر وربيع الأول وربيع الثاني وجمادى الأولى وجمادى الثانية ورجب وشعبان ورمضان وشوال وذو القعدة وذو الحجة، هذه هي الأشهر الاثنا عشر شهرًا التي جعلها الله أشهرًا لعباده منذ خلق السموات والأرض، كانوا في الجاهلية يحلون المحرم ويحرمون صفر، وبين النبي عليه الصلاة والسلام أن هذه الاثنا عشر شهرًا منها أربعة حرم، ثلاثة متوالية وواحد منفرد، الثلاثة المتوالية هي: ذو القعدة وذو الحجة والمحرم، جعلها الله تعالى أشهرًا محرمة يحرم فيها القتال ولا يعتدي أحد على أحد، لأن هذه الأشهر هي أشهر سير الناس إلى حج بيت الله، فجعلها الله عز وجل محرمة لئلا يقع القتال في هذه الأشهر والناس سائرون إلى بيت الله الحرام، وهذه من حكمة الله عز وجل، والصحيح أن القتال ما زال محرمًا وأنه لم ينسخ إلى الآن وأنه يحرم ابتداء القتال فيها ( ورجب مضر ) يقوله النبي عليه الصلاة والسلام، الرابع: ( رجب مضر الذي بين جمادى وشعبان ) وكانوا في الجاهلية يؤدون العمرة فيه فيجعلون شهر رجب للعمرة، والأشهر الثلاثة للحج، فصار محرمًا هذا الشهر يحرم فيه القتال كما يحرم في ذي القعدة وذي الحجة والمحرم، إذًا الأشهر السنوية التي جعلها الله لعبادة اثنا عشر شهرًا، منها أربعة حرم كما في القرآن الكريم ذو القعدة وذو الحجة المحرم ورجب، ثم سألهم النبي عليه الصلاة والسلام: أي شهر هذا؟ وأي بلد هذا؟ وأي يوم هذا؟ سألهم عن ذلك من أجل استحضار هممهم وانتباههم لأن الأمر أمر عظيم، فسألهم: ( أي شهر هذا؟ قالوا: الله ورسوله أعلم ) لأنهم استبعدوا أن يسأل النبي صلى الله عليه وسلم عن الشهر وهو معروف أنه ذو الحجة، ولكن من أدبهم رضي الله عنهم أنهم لم يقولوا: الأمر معلوم هذا شهر ذي الحجة، من أدبهم أنهم قالوا: الله ورسوله أعلم، ثم سكت لأجل أن الإنسان إذا تكلم ثم سكت انتبه الناس: ما الذي أسكته؟ وهذه طريقة متبعة في الإلقاء أن الإنسان إذا رأى من الناس الذين حوله عدم إنصات يسكت حتى ينتبهوا، لأن الكلام إذا كان مسترسلًا يمكن يحصل غفلة، لكن إذا توقف فإنهم سيقولون ليش لماذا وقف؟
سكت النبي عليه الصلاة والسلام، يقول أبو بكرة: ( حتى ظننا أنه سيسميه بغير اسمه، ثم قال: أليس ذا الحجة؟ قالوا: بلى، ثم قال عليه الصلاة والسلام: أي بلد هذا؟ قالوا: الله ورسوله أعلم ) هم يعلمون أنه مكة، لكن لأدبهم واحترامهم لرسول الله صلى الله عليه وسلم لم يقولوا: هذا شيء معلوم يا رسول الله، كيف تسأل عنه؟ بل قالوا: الله ورسوله أعلم، ثم سكت حتى ظنوا أنه سيسميه بغير اسمه، فقال: أليس البلدة؟ ) والبلدة اسم من أسماء مكة ( قالوا: بلى، ثم قال: أي يوم هذا؟ قالوا: الله ورسوله أعلم ) مثلما قالوا بالأول، قال: أليس يوم النحر؟ قالوا: بلى يا رسول الله ) وهم يعملون أن مكة حرام وأن شهر ذي الحجة حرام وأن يوم النحر حرام يعني كلها حرم محترمة، فقال عليه الصلاة والسلام: ( إن دماءكم وأموالكم وأعراضكم عليكم حرام كحرمة يومكم هذا في بلدكم هذا في شهركم هذا ) فأكد عليه الصلاة والسلام تحريم هذه الثلاثة الدماء والأموال والأعراض وأنها محرمة ( لا يحل دم امرئ مسلم إلا بإحدى ثلاثة: الثيب الزاني، والنفس بالنفس، والتارك لدينه المفارق للجماعة ) الأموال أيضًا لا يحل مال امرئ مسلم إلا بطيب نفس منه (( يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لا تَأْكُلُوا أَمْوَالَكُمْ بَيْنَكُمْ بِالْبَاطِلِ إِلَّا أَنْ تَكُونَ تِجَارَةً عَنْ تَرَاضٍ مِنْكُمْ )) الأعراض محترمة لا يحل لمسلم أن يغتاب أخاه أو أن يقذفه، بل إن القاذف إذا قذف شخصًا عفيفًا بعيدًا عن التهمة وقال: يا زاني أو أنت زاني أو أنت لوطي أو ما أشبه ذلك، فإما أن يأتي بأربعة شهداء يشهدون على الزنا صريحًا وإلا فإنه يعاقب بثلاث عقوبات، هذا القاذف يعاقب بثلاث عقوبات، العقوبة الأولى: أن يجلد ثمانين جلدة، والعقوبة الثانية: ألا تقبل له شهادة أبدًا، كلما شهد عند القاضي ترد شهادته سواء شهد بالأموال أو شهد بالدماء أو شهد برؤية الهلال أو شهد بأي شيء آخر يرفض القاضي شهادته ويردها، العقوبة الثالثة - يرحمك الله - العقوبة الثالثة: الفسق أن يكون فاسقًا بعد أن كان عدلًا، فلا يزوج بنته ولا أخته ولا يتقدم إمامًا في المسلمين عند كثير من العلماء، ولا يولى أي ولاية لأنه صار فاسقًا، هذه عقوبة من يرمي شخصًا بالزنا أو باللواط، إلا أن يأتي بأربعة شهداء، قال الله تعالى: (( لولا جَاءُوا عَلَيْهِ بِأَرْبَعَةِ شُهَدَاءَ فَإِذْ لَمْ يَأْتُوا بِالشُّهَدَاءِ فَأُولَئِكَ عِنْدَ اللَّهِ هُمُ الْكَاذِبُونَ )) حتى لو فرض هذا الرجل من أصدق الناس ولم يأت بأربعة شهداء فإنه يجلد ثمانين جلدة ( ولهذا شهد أربعة من الرجال على رجل شهدوا على رجل بأنه زنى عند عمر بن الخطاب، أربعة شهدوا على رجل بأنه زنا، فجاء بهم عمر فسألهم قال: تشهد أنه زنى؟ قال: نعم، قال: تشهد أنك رأيت ذكره في فرجها غائبًا كما يغيب المرود في المكحلة؟ قال : نعم، جاء بالثاني قال: نعم، جاء بالثالث قال: نعم، فجاء بالرابع فتوقف توقف قال: أنا لا أشهد بالزنا لكني رأيت أمرًا منكرًا، رأيت رجلًا على امرأة يتحرك كتحرك المجامع لكن لا أشهد، فجلد الثلاثة الأولين جلدهم على ثمانين جلدة ) لأنه تبين أنهم كذبة وأطلق الثالث، فالأعراض من أشد الأشياء حرمة ولهذا كما سمعتم قال الله تعالى: (( وَالَّذِينَ يَرْمُونَ الْمُحْصَنَاتِ ثُمَّ لَمْ يَأْتُوا بِأَرْبَعَةِ شُهَدَاءَ فَاجْلِدُوهُمْ ثَمَانِينَ جَلْدَةً )) هذه واحدة (( وَلا تَقْبَلُوا لَهُمْ شَهَادَةً أَبَداً )) اثنين (( وَأُولَئِكَ هُمُ الْفَاسِقُونَ)) ثلاثة (( إِلَّا الَّذِينَ تَابُوا مِنْ بَعْدِ ذَلِكَ وَأَصْلَحُوا فَإِنَّ اللَّهَ غَفُورٌ رَحِيمٌ )) يعني فلا يكونوا فساقًا، لكن بشرط التوبة والإصلاح ما يكفي أن يقول: أنا تائب حتى ننظر هل الرجل أصلح أو لم يصلح؟ إذًا جدير بما كان هذه حال حاله أن يؤكده النبي صلى الله عليه وسلم في هذه الخطبة العظيمة في مشهد الصحابة في يوم النحر في منى يقول عليه الصلاة والسلام: ( إن دماءكم وأموالكم وأعراضكم عليكم حرام كحرمة يومكم هذا في بلدكم هذا في شهركم هذا ) ثم قال: ( ألا لا ترجعوا بعدي كفارًا يضرب بعضكم رقاب بعض ) لأن المسلمين لو صار يضرب بعضهم رقاب بعض صاروا كفارًا، كفارًا لأنه لا يستحل دم المسلم إلا الكافر، هل يمكن لمسلم أن يشهر السلاح على أخيه؟ لا، لكن الكافر يشهر السلاح على المسلم، ولهذا جعل النبي عليه الصلاة والسلام المسلمين إذا اقتتلوا وصفهم بأنهم كفار ( ألا لا ترجعوا بعدي كفارًا يضرب بعضكم رقاب بعض ) وهذه المسألة بحسب النصوص الأخرى فيها تفصيل: إن قاتل المسلم مستحلًا لقتله بغير إذن شرعي فهو كافر كفرًا مخرجًا عن الملة، وإن قاتله بتأويل أو لقصد رئاسة أو لقصد سلطان فهذا لا يكفر كفرًا كفر ردة، ولكنه كفر دون كفر، ودليل ذلك قوله تعالى: (( وَإِنْ طَائِفَتَانِ مِنَ الْمُؤْمِنِينَ اقْتَتَلُوا فَأَصْلِحُوا بَيْنَهُمَا فَإِنْ بَغَتْ إِحْدَاهُمَا عَلَى الْأُخْرَى فَقَاتِلُوا الَّتِي تَبْغِي حَتَّى تَفِيءَ إِلَى أَمْرِ اللَّهِ فَإِنْ فَاءَتْ فَأَصْلِحُوا بَيْنَهُمَا بِالْعَدْلِ وَأَقْسِطُوا إِنَّ اللَّهَ يُحِبُّ الْمُقْسِطِينَ * إِنَّمَا الْمُؤْمِنُونَ إِخْوَةٌ فَأَصْلِحُوا بَيْنَ أَخَوَيْكُمْ )) وهذا هو الجمع بين هذه الآية وبين الحديث فيقال: إن تقاتل المسلمون مستحلًا كل واحد دم أخيه فهو كافر كفرًا مخرجًا عن الملة، وإن كان لرئاسة أو عصبية أو حمية أو ما أشبه ذلك فإنه لا يكفر كفر ردة، بل يكون كفره كفرًا دون كفر وعليه أن يتوب ويصلح، ثم قال عليه الصلاة والسلام: ( ألا هل بلغت؟ ) يسأل الصحابة قالوا: ( نعم قال: ألا هل بلغت؟ قالوا: نعم، ألا هل بلغت؟ قالوا: نعم ) فتأمل كيف يقرر النبي عليه الصلاة والسلام أنه بلغ في المواطن العظيمة الكثيرة الجمع في عرفة خطبهم عليه الصلاة والسلام وقال: ( ألا هل بلغت ؟ قالوا : نعم فجعل يرفع إصبعه إلى السماء وينكتها إلى الناس يقول: اللهم اشهد ) يعني اشهد عليهم أني بلغتهم، وكذلك أشهد ربه على أنه بلغ أمته وأقروا بذلك في يوم النحر، ونحن نشهد ونشهد الله وملائكته ومن سمعنا من خلقه أن نبينا صلى الله عليه وسلم بلغ البلاغ المبين، وأنه ترك أمته على المحجة البيضاء، وأنه ما بقي شيء من أمور الدين أو الدنيا تحتاجه الأمة إلا بينه عليه الصلاة والسلام، ولكن الخطأ من ممن يبلغه الخبر هو الذي يكون قاصرًا في فهمه، وقد يكون له نية سيئة فيحرم الصواب، وقد يكون هناك أسباب أخرى وإلا فالرسول عليه الصلاة والسلام بلغ بلاغًا تامًّا كاملًا، ثم أمر عليه الصلاة والسلام أن يبلغ الشاهد الغائب يعني من شهده وسمع خطبته أن يبلغ الأمة، وأخبر عليه الصلاة والسلام أنه ربما يكون مبلغ أوعى للحديث من السامع، وهذه الوصية من الرسول عليه الصلاة والسلام وصية لمن حضر في ذلك اليوم ووصية لمن سمعه حديثه إلى يوم القيامة، فعلينا إذا سمعنا حديثًا عن الرسول عليه الصلاة والسلام أن نبلغه إلى الأمة، علينا ذلك نحن محملون بأن نبلغ، نحن منهيون أن نكون كاليهود الذين حملوا التوراة ثم لم يحملوها، وقد وصفهم الله بأبشع وصف فقال: (( مَثَلُ الَّذِينَ حُمِّلُوا التَّوْرَاةَ ثُمَّ لَمْ يَحْمِلُوهَا كَمَثَلِ الْحِمَارِ يَحْمِلُ أَسْفَاراً )) الحمار إذا حمل أسفارًا يعني كتبًا هل ينتفع منها؟ الجواب: ينتفع؟
الطالب : لا.
الشيخ : لا ينتفع، إذا كان الحمار يحمل أسفارًا لا ينتفع منها فالذي يحمل القرآن أو السنة ولا ينتفع منها كمثل الحمار يحمل أسفارًا، نسأل الله أن يرزقنا وإياكم العلم النافع والعمل الصالح.