تتمة شرح قول الإمام النووي رحمه الله تعالى فيما نقله : " ... وعن أبي هريرة رضي الله عنه قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم (التقوى هاهنا بحسب امرئ من الشر أن يحقر أخاه المسلم ) رواه الترمذي وقال: حديث حسن ... " . حفظ
الشيخ : الكلام على أول حديث أبي هريرة رضي الله عنه في بيان الصلة بين المسلم وأخيه ، وأن المسلم هو أخو المسلم ، وانتهينا إلى قوله صلى الله عليه وآله وسلم : ( التقوى هاهنا ، ويشير إلى صدره ) : يعني أن التقوى في القلب ، فإذا اتقى القلب ، اتقت الجوارح، وإذا لم يتق القلب ، لم يتق الجوارح ، وهذا كقوله صلى الله عليه وسلم : ( ألا وإن في الجسد مضغة إذا صلحت صلح الجسد كله ، وإذا فسدت فسد الجسد كله، ألا وهي القلب ) ، فإذا كان في قلب الإنسان تقوى لله عزّ وجلّ وخوفٌ منه وخشيه له، استقامت أعماله الظاهرة ، لأن الأعمال الظاهرة تتبع القلب .
وقد مثل بعض العلماء ومنهم أبو هريرة رضي الله عنه القلب بالملك المطاع مع جنوده ، فالملك المطاع مع جنوده إذا أمر جنوده بشيء أطاعوه ، ولكن بعض العلماء قال : إن هذا المثال أنقص من قول النبي صلى الله عليه وآله وسلم : ( إذا صلَحت صلح الجسد كله ) ، وذلك لأن الملك مع جنوده وإن كان مطاعاً فإنهم لا يصلحون بصلاحه ، لكن القلب إذا صلَح صلح الجسد ، وإذا اتقى اتقى الجسد.
واعلم أن من الناس من يجادل بالباطل بهذا الحديث، إذا أمرته بأمر معروف، أو نهيته عن منكر، قال، التقوى هاهنا ، تقول له: لا تحلق لحيتك ، حلق اللحية حرام، حلق اللحية من هدي المجوس والمشركين، إعفاء اللحية مِن هدي النبيين والمرسلين وأولياء الله الصالحين ، إذا قلت له هذا قال: التقوى هاهنا. التقوى ها هنا. نقول له : كذبت، ليس في قلبك تقوى، لو كان في قلبك تقوى لاتقيت الله ، لأن القلب إذا اتقى اتقت الجوارح، وإذا انهمك في معصية الله انهمكت الجوارح.
وفي قوله : ( التقوى ها هنا ، وإشارته على صدره ) : دليلٌ على أن العقل في القلب الذي في الصدر، وهذا هو المطابق للقرآن تماماً، قال الله تعالى: (( أَفَلَمْ يَسِيرُوا فِي الْأَرْضِ فَتَكُونَ لَهُمْ قُلُوبٌ يَعْقِلُونَ بِهَا أَوْ آذَانٌ يَسْمَعُونَ بِهَا فَإِنَّهَا لا تَعْمَى الْأَبْصَارُ وَلَكِنْ تَعْمَى الْقُلُوبُ الَّتِي فِي الصُّدُورِ )) ، فقال : (( قُلُوبٌ يَعْقِلُونَ بِهَا )) ثم قال : (( وَلَكِنْ تَعْمَى الْقُلُوبُ الَّتِي فِي الصُّدُورِ )) .
وليس القلب المخ كما يظنه بعض الجهال، فالعقل في القلب ، ولكن المخ لا شك أن له أثراً في أعمال العبد، في حركاته، وفي سكناته، لكنهم قالوا: إن المخ مثل الخادم، يهيئ الأشياء ويطبخها، ثم يبعث بها إلى القلب، ثم يُصدر القلب الأوامر على المخ من أجل أن المخ يدبر الأعصاب وبقية الجسم، فيكون هذا المخ خادماً للقلب عند تصدير الأشياء إليه واستصدارها منه ، فالأشياء تمر مِن القلب ذاهبة وآتية إلى المخ ، والمخ هو الذي يحرك البدن ، ولذلك إذا اختل المخ اختل كل شيء .
قال : ( بحسب امرئ مِن الشر أن يحقر أخاه المسلم ) : يعني لو لم يكن من الشر للمسلم إلا أن يحقر أخاه ويستصغره ويستذله ، لكان كافياً في الإثم والعياذ بالله ، وفي هذا التحذير العظيم من احتقار أخيك المسلم، وأن الواجب عليك أن تحترمه وتعظمه بما فيه من الإسلام والإيمان.
ثم قال : ( كل المسلم على المسلم حرام، دمه وماله وعرضه ) ، ( كل المسلم على المسلم حرام، دمه ) : فلا يعتدي على نفسه بقتل أو جرح أو غير ذلك ( وماله ) : فلا يأخذ ماله، لا غصباً، ولا سرقة، ولا خيانة، ولا دعوى ما ليس له، ولا غير ذلك بأي طريق تأخذ مال أخيك بغير حق فإنه حرامٌ عليك.
( وعرضه ) : أن لا تنتهك عرضه، وتتكلم فيه بين الناس، سواء كنت صادقاً فيما تقول أم كاذباً، لأن النبي صلى الله عليه وآله وسلم : ( لما سئل عن الغيبة فقال: هي ذكرك أخاك بما يكره ، قالوا: يا رسول الله، أرأيت إن كان في أخي ما أقول؟ قال: إن كان فيه ما تقول فقد اغتبته، وإن لم يكن فيه ما تقول فقد بهته ) ، فالواجب على المسلم أن يحترم أخاه في ماله وعرضه ودمه : ( كل المسلم على المسلم حرام، دمه وماله وعرضه ) ، والله أعلم.