شرح قول الإمام النووي رحمه الله تعالى فيما نقله : " ... وعن أبي هريرة قال قال رسول الله صلى الله عليه وسلم ( ولا تحاسدوا ... ) . رواه مسلم ... " . حفظ
الشيخ : بسم الله الرحمن الرحيم :
قال المؤلف -رحمه الله تعالى- فيما نقله عن أبي هريرة رضي الله عنه ، أن النبي صلى الله عليه وسلم قال : ( لا تحاسدوا ) : أي لا يحسد بعضكم بعضاً. والحسد : " أن يكره الإنسان ما أنعم الله به على غيره " ، هذا هو الحسد، أن يكره الإنسان ما أنعم الله به على غيره، مثاله : أن تكره أن الله أنعم على هذا الرجل بالمال، أو بالبنين، أو بالزوجة، أو بالعلم أو بالعبادة، أو بغير ذلك من النعم ، سواء تمنيت أن تزول عنه أم لم تتمن.
وإن كان بعض العلماء يقول : إن الحسد أن يتمنى زوال نعمة الله على غيره ، لكن هذا أخبث وأشده، وإلا فمجرد كراهة الإنسان أن ينعم الله على الشخص فهو حسد، والحسد، من خصال اليهود، فمن حسد فهو متشبه بهم والعياذ بالله، قال الله تعالى : (( وَدَّ كَثِيرٌ مِنْ أَهْلِ الْكِتَابِ لَوْ يَرُدُّونَكُمْ مِنْ بَعْدِ إِيمَانِكُمْ كُفَّاراً حَسَداً مِنْ عِنْدِ أَنْفُسِهِمْ )) ، وقال تعالى فيهم : (( أَمْ يَحْسُدُونَ النَّاسَ عَلَى مَا آتَاهُمُ اللَّهُ مِنْ فَضْلِهِ فَقَدْ آتَيْنَا آلَ إِبْرَاهِيمَ الْكِتَابَ وَالْحِكْمَةَ وَآتَيْنَاهُمْ مُلْكاً عَظِيماً )) ، ولا فرق بين أن تكره ما أنعم الله به على غيرك ليعود هذا الشيء إليك ، أو ليرتفع عن أخيك وإن لم يعد إليك.
واعلم أن في الحسد مفاسد كثيرة :
منها : أنه تشبه باليهود ، أخبث عباد الله ، وأخس عباد الله ، الذين جعل الله منهم القردة والخنازير وعبد الطاغوت.
ومنها : أن فيه دليلاً على خبث نفس الحاسد، وأنه لا يحب لإخوانه ما يحب لنفسه ، لأن من أحب لإخوانه ما يحب لنفسه ، لم يحسد الناس على شيء ، بل يفرح إذا أنعم الله على غيره بنعمة ويقول : اللهم آتني مثلها ، كما قال الله تعالى : (( وَلا تَتَمَنَّوْا مَا فَضَّلَ اللَّهُ بِهِ بَعْضَكُمْ عَلَى بَعْضٍ لِلرِّجَالِ نَصِيبٌ مِمَّا اكْتَسَبُوا وَلِلنِّسَاءِ نَصِيبٌ مِمَّا اكْتَسَبْنَ وَاسْأَلُوا اللَّهَ مِنْ فَضْلِهِ )) .
ومنها : أن فيها إعتراضاً على قدر الله عزّ وجلّ وقضائه ، فإنه من الذي أنعم على هذا الرجل ؟ الله عزّ وجلّ ، فإذا كرهت ذلك فقد كرهت قضاء الله وقدره ، ومعلوم أن الإنسان إذا كره قضاء الله وقدره فإنه على خطر في دينه - نسأل الله العافية - ، لأنه يريد أن يزاحم ربّ الأرباب جلّ وعلا في تدبيره وتقديره .
ومنها ، من مفاسد الحسد : أن الإنسان كلما أنعم الله على عباده نعمة، التهبت نار الحسد في قلبه ، فصار دائماً في حسرة ودائماً في غم ، لأن نعم الله على العباد لا تحصى ، وهو رجلٌ خبيث كلما أنعم الله على عبده نعمة غلا ذلك الحسد في قلبه حتى يحرقه .
ومنها ، أي من مفاسد الحسد : أنه يأكل الحسنات كما تأكل النار الحطب : ( إياكم والحسد، فإنه يأكل الحسنات كما تأكل النار الحطب ) .
ومن مفاسده : أنه يعرقل الإنسان عن السعي في الأشياء النافعة ، لأنه دائماً يفكر وفي غم ، كيف هذا جاءه مال ، كيف هذا جاءه علم؟ كيف هذا جاءه ولد؟ كيف هذا جاءه زوجة وما أشبه ذلك ، فتجده دائماً منحسراً منطوياً على نفسه، ليس له هم إلا تتبع نعم الله على العبد واغتمامه بها، نسأل الله العافية.
ومن مفاسد الحسد : أنه ينبئ عن نفس شريرة ضيقة، لا تحب الخير وإنما هي نفس أنانية تريد أن يكون كل شيء لها .
ومن مفاسد الحسد أيضاً : أنه لا يمكن أن يغير شيء مما قضاه الله عزّ وجلّ أبدأً، مهما عملت، ومهما كرهت، ومهما سعيت لإخوانك في إزالة نعم الله عليهم، فإنك لا تستطيع شيئاً.
ومن مفاسده : أنه ربما يترقى بالإنسان إلى أن يصل إلى درجة العائن ، العائن الذي نسميه : " النّحوت " ، يعين الناس ، لأن العائن أصله أن نفسه شريرة حاسدة حاقدة، فإذا رأى ما يعجبه انطلق من هذه النفس الخبيثة مثل السهم حتى يصيب بالعين ، فالإنسان إذا حسد وصار فيه نوع من الحسد، فإنه يترقى به الأمر حتى يكون من أهل العيون الذين يؤذون الناس بأعينهم، ولا شك أن العائن عليه من الوبال والنقمة بقدر ما ضرّ العباد ، إن ضرهم بأموالهم فعليه من ذلك إثم ، أو بأبدانهم أو بمجتمعهم ، ولهذا ذهب كثيرٌ من أهل العلم إلى تضمين العائن كل ما أتلف ، يعني إذا نحت أحد وتلف شيئ من ماله أو أولاده أو غيرهم، فإنه يضمن.
كما أنهم قالوا أيضاً : إن من اشتهر بذلك، فإنه يجب أن يُحبس إلا أن يتوب، أن يحبس اتقاء شره، لأنه يؤذى الناس ويضرهم فيحبس كفاً لشره .
ومن مفاسد الحسد: انه يؤدي إلى تفرق المسلمين ، لأن الحاسد مكروه عند الناس، مبغَض، والإنسان الطيب القلب الذي يحب لإخوانه ما يحب لنفسه، تجده محبوباً ، كلٌ يحبه، ولهذا دائماً يقول : فلان والله رجل طيب ما في قلبه حسد، وفلان رجلٌ خبيثٌ حسود وحقود وما أشبه ذلك.
فهذه عشر مفاسد كلها في الحسد، وبهذا نعرف حكمة النبي صلى الله عليه وآله وسلم حيث قال: ( لا تحاسدوا ) أي : لا يحسد بعضكم بعضاً.
فإن قال قائل : ربما يجد الإنسان في نفسه أنه يحب أن يتقدم على غيره في الخير ، فهل هذا من الحسد ؟ فالجواب : لا ، ليس هذا من الحسد ، بل هذا من التنافس في الخيرات ، قال الله تعالى: (( لِمِثْلِ هَذَا فَلْيَعْمَلِ الْعَامِلُونَ )) ، وقال : (( وفي ذلك فليتنافس المتنافسون )) ، فإذا أحب الإنسان أن يتقدم غيره في الخير ، فهذا ليس من الحسد في شيء ، الحسد أن يكره الخير للغير ، أن يكره الخير للغير هذا هو الحسد.
واعلم أن للحسد علامات :
منها أن الحاسد يحب دائماً أن يخفي فضائل غيره، فإذا كان إنسان ذو مال ينفق ماله في الخير من صدقات وبناء مساجد ، وإصلاح طرق ، وشراء كتب يوقفها على طلبة العلم وغير ذلك ، فتجد هذا الرجل إذا تحدث الناس على هذا المحسن يكتم ، ويسكت ، وكأنه لم يسمع شيئاً، هذا لا شك إن عنده حسداً ، لأن الذي يحب الخير يحب نشر الخير للغير ، فإذا رأيت الرجل إذا تكلم في فاعل الخير تكلم بإنصاف وأثنى عليه وقال : هذا فيه خيرٌ ، فهذا يدل على طيب قلبه وسلامته من الحسد. نسأل الله أن يعيذنا وإياكم من الحسد، ومن منكرات الأخلاق والأعمال.
القارئ : الحمد لله رب العالمين ، والصلاة والسلام على نبينا محمد وعلى آله وصحبه أجمعين .
نقل المؤلف -رحمه الله تعالى- : " وعن أبي هريرة رضي الله عنه قال : قال رسول الله صلى الله عليه وسلم : ( لا تحاسدوا ولا تناجشوا ولا تباغضوا ولا تدابروا ، ولا يبع بعضكم على بيع بعض ، وكونوا عباد الله إخوانا ، المسلم أخو المسلم لا يظلمه ولا يحقره ولا يخذله ، التقوى هاهنا ، ويشير إلى صدره ثلاث مرات ، بحسْبِ امرئ من الشر أن يحقر أخاه المسلم ، كل المسلم على المسلم حرام ، دمه وماله وعرضه ) ، رواه مسلم " .