شرح قول الإمام النووي رحمه الله تعالى فيما نقله : " ... وعن أبي هريرة رضي الله عنه قال قال رسول الله صلى الله عليه وسلم ( كل سلامى من الناس عليه صدقة كل يوم تطلع فيه الشمس تعدل بين الاثنين صدقة وتعين الرجل في دابته فتحمله عليها أو ترفع له عليها متاعه صدقة والكلمة الطيبة صدقة وبكل خطوة تمشيها إلى الصلاة صدقة وتميط الأذى عن الطريق صدقة ) متفق عليه ... " . حفظ
الشيخ : بسم الله الرحمن الرحيم :
سبق لنا ما ذكره المؤلف من الآيات الكريمة الدالة على فضيلة الإصلاح بين الناس، ثم ذكر حديث أبي هريرة رضي الله عنه ، أن النبي صلى الله عليه وسلم قال : ( يُصبح على كل سُلامى من الناس صدقة كل يوم تطلع فيه الشمس ) : يعني عليه الصلاة والسلام أنه كل يوم تطلع الشمس فإنه يصبح على كل سلامى من الناس صدقة ، والسلامى هي العظام والمفاصل، يعني كل مفصل عليه صدقة ، كل يوم ، كل يوم تطلع الشمس فعلى كل مفصل من مفاصلك صدقة .
قال العلماء من أهل الفقه والحديث : " والسُلامى في كل إنسان ثلاث مئة وستون عضواً أو مفصلاً، فعلى كل واحد من الناس أن يتصدق كل يوم تطلع فيه الشمس بثلاث مئة وستين صدقة ، ولكن الصدقة لا تختص بالمال بل كل ما يقرب إلى الله فهو صدقة بالمعنى العام ، لأن فعله يدل على صدق صاحبه في طلب رضوان الله عز وجل " .
قال النبي عليه الصلاة والسلام : ( يُصبح على كل سُلامى من الناس صدقة كل يوم تطلع فيه الشمس ، ثم بين هذه الصدقة فقال : تعدل بين اثنين صدقة ) : هذه صدقة ، تعدل بين اثنين يعني : رجلان يتخاصمان إليك فتعدل بينهما ، تحكم بينهما بالعدل ، والعدل : " كل ما وافق الشرع فهو عدل، وكل ما خالف الشرع فهو ظلم وجور " ، وعلى هذا فنقول : هذه القوانين التي يحكم بها بعض الناس وهي مخالفة لشريعة الله ليست عدلاً ، بل هي جور وظلم وباطل ، ومن حكم بها معتقداً أنها مثل حكم الله أو أحسن منه ، فإنه كافر مرتد عن دين الله ، لأنه كذب قول الله تعالى : (( وَمَنْ أَحْسَنُ مِنَ اللَّهِ حُكْماً لِقَوْمٍ يُوقِنُونَ )) يعني : لا أحد أحسن من الله حكماً، لكن لا يفهم هذا إلا من يوقن، أما الذي أعمى الله بصيرته، فإنه لا يدري بل قد يُزيّن له سوء عمله فيراه حسناً والعياذ بالله.
ومن العدل بين اثنين : العدل بينهما بالصلح، لأن الحاكم بين الاثنين سواء كان منصوباً من قبل ولي الآمر، أو غير منصوب ، قد لا يتبين له وجه الصواب مع أحد الطرفين، فإذا لم يتبين له، فلا سبيل له إلا الإصلاح، فيصلح بينهما بقدر ما يستطيع .
وقد سبق لنا أنه لا صلح مع المشاحَّة، يعني أن الإنسان إذا أراد أن يعامل أخاه بالمشاحَّة، فإنه لا يمكن الصلح ، كما قال تعالى : (( وَالصُّلْحُ خَيْرٌ وَأُحْضِرَتِ الْأَنْفُسُ الشُّحَّ )) يعني : أن الله يشير إلى أن الصلح ينبغي للإنسان أن يبعد فيه عن الشحّ ، وأن لا يطالب بكامل حقه ، لأنه إن طالب بكامل حقه، طالب الآخر بكامل حقه ولم يحصل بينهما صلح ، بل لابد أن يتنزل كل واحد منهم عن حقه.
فإذا لم يكن الحكم بين الناس بالحق، بل اشتبه على الإنسان إما مِن حيث الدليل، أو من حيث حال المتخاصمين، فليس هناك إلا السعي بينهما بالصلح .
قال عليه الصلاة والسلام : ( تعدل بين اثنين صدقة، وتعين الرجل في دابته فتحمله عليها أو ترفع له عليها متاعه صدقة ) : هذا أيضاً من الصدقات أن تعين الرجل في دابته فتحمله عليها إذا كان لا يستطيع أن يركبها بنفسه، أو تحمل له عليها متاعه، تساعده على حمل المتاع على الدابة فهذا صدقة، ( وتُميط الأذى عن الطريق صدقة ) : يعني إذا رأيت ما يؤذي المشاة فأمطته أي: أزلته فهذه صدقة، سواء كان حجراً، أم زجاجاً، أم قشر بطيخ، أم ثياباً يلتوي بعضها على بعض، أو ما أشبه ذلك، المهم : كلُّ ما يؤذي فأَزِلْه عن الطريق، فإنك بذلك تكون متصدقاً .
وإذا كان إماطة الأذى عن الطريق صدقة ، فإن إلقاء الأذى في الطريق سيئة ، ومِن ذلك مَن يلقون قمامتهم في وسط الشارع ، أو يسيبون المياه تجري في الأسواق فتؤذي الناس ، مَع أن في تسييب المياه مفسدةً أخرى ، وهي استنفاد الماء، لأن الماء مخزون في الأرض، قال الله تعالى : (( فَأَنْزَلْنَا مِنَ السَّمَاءِ مَاءً فَأَسْقَيْنَاكُمُوهُ وَمَا أَنْتُمْ لَهُ بِخَازِنِينَ )) : والمخزون ينفد ، فلهذا نرى أن الذي يسيب المياه ويسرف في صرفها ولا يبالي في ضياعها مسيء إلى كل الأمة ، لأن الماء مشترك، فإذا أسأت في تصرفه وأنفدته ولم تبال به كنت مسرفاً، والله لا يحب المسرفين، وكنت مسيئاً بتهديد الأمة بنقص مائها وزواله، وهذا ضرر عام.
المهم أن الذين يلقون في الأسواق ومسار الناس ما يؤذيهم، هم مسيئون، والذين يزيلون ذلك، هم متصدقون.
( وتميط الأذى عن الطريق صدقة، والكلمة الطيبة صدقة ) : وهذه ولله الحمد من أعم ما يكون ، الكلمة الطيبة تنقسم إلى قسمين : طيبة بذاتها، وطيبة بغاياتها.
أما الطيبة بذاتها فالذكر : لا إله إلا الله، الله أكبر، الحمد لله، لا حول ولا قوة إلا بالله، وأفضل الذكر قراءة القرآن.
وأما الكلمة الطيبة في غايتها : فهي الكلمة المباحة ، التحدث مع الناس إذا قصدت بهذا إيناسهم وإدخال السرور عليهم، فإن هذا الكلام وإن لم يكن طيباً بذاته لكنه طيب في غاياته، في إدخال السرور على إخوانك، وإدخال السرور على إخوانك مما يقربك إلى الله عز وجل، فالكلمة الطيبة صدقة وهذا من أعم ما يكون.
ثم قال : ( وبكل خَطوة تخطوها إلى الصلاة صدقة ) كل خَطوة : خَطوة بالفتح يعني : خطوة واحد تخطوها إلى الصلاة ففيها صدقة ، عُد الخطى من بيتك إلى المسجد تجد خطاً كثيرة ، كل خطوة واحدة فهي صدقة لك، إذا خرجت مِن بيتك مسبغاً الوضوء، لا يخرجك مِن بيتك إلى المسجد إلا الصلاة، فإن كل خطوة صدقة، وكل خطوة تخطوها يرفع الله لك بها درجة، ويحط عنك بها خطيئة، فضل عظيم.
أسبغ الوضوء في بيتك، واخرج إلى المسجد، لا يخرجك إلا الصلاة، وأبشر بثلاث فوائد :
الأولى : صدقة.
والثاني : رفع درجة.
والثالث : حطّ خطيئة.
من بيتك إلى المسجد ، كل هذا من نعمة من الله عز وجل، والله الموفق.