شرح قول الإمام النووي رحمه الله تعالى فيما نقله : " ... عن حارثة بن وهب رضي الله عنه قال سمعت رسول الله صلى الله عليه وسلم يقول ( ألا أخبركم بأهل الجنة كل ضعيف متضعف لو أقسم على الله لأبره ألا أخبركم بأهل النار كل عتل جواظ مستكبر ) متفق عليه العتل: الغليظ الجافي والجواظ بفتح الجيم وتشديد الواو وبالظاء المعجمة وهو الجموع المنوع وقيل الضخم المختال في مشيته وقيل القصير البطين ... " . حفظ
الشيخ : بسم الله الرحمن الرحيم :
قال المؤلف -رحمه الله تعالى- : فيما نقله عن حارثة بن وهب رضي الله عنه في : " باب ضعفاء المسلمين وأذلاءهم " : أن النبي صلى الله عليه وسلم قال: ( ألا أُخبركم بأهل الجنة؟ كل ضعيفٍ مُتضعِّف لو أقسم على الله لأبره ) : يعني هذه من علامات أهل الجنة أن الإنسان يكون ضعيفاً متضعفاً، يعني: لا يهتم بمنصبه أو جاهه، أو يسعى إلى علو المنازل في الدنيا، ولكنه ضعيف فينفسه مُتضعِّف، يميل إلى الخمول وإلى عدم الظهور، لأنه يرى أن المهم أن يكون له جاه عند الله عز وجل، لا أن يكون شريفاً في قومه، أو ذا عظمة فيهم، ولكن يرى أن الأهم كلَّه هو أن يكون عند الله سبحانه وتعالى ذا منزلة كبيرة عالية.
ولذلك تجد أهل الآخرة لا يهتمون بما يفوتهم من الدنيا، إن جاءهم مِن الدنيا شيء قبلوه، وإن فاتهم شيء لم يهتموا به ، لأنهم يرون أن ما شاء الله كان، وما لم يشأ لم يكن ، وأن الأمور بيد الله، وأن تغيير الحال من المحال، وأنه لا يمكن رفع ما وقع ولا دفع ما قُدر إلا بالأسباب الشرعية التي جعلها الله تعالى سبباً -أما أهل النار فقال ألا أخبركم نعم- ،
وقوله : ( لو أقسم على الله لأبره ) : يعني لو حلف على شيء ليسر الله له أمره، حتى يحقق له ما حلف عليه، وهذا كثيراً ما يقع أن يحلف الإنسان على شيء ثقة بالله عز وجل، ورجاء لثوابه فيبر الله قسمه، وأما الحالف على الله تعالياً وتحجراً لرحمته، فإن هذا يُخذل، والعياذ بالله.
وهاهنا مثلان :
المثل الأول : ( أنَّ الرُّبيع بنت النضر رضي الله عنها وهي من الأنصار، كسرت ثنيةَ جارية من الأنصار، فرفعوا الأمر إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم ، فأمر النبي صلى الله عليه وسلم أن تكسر ثنية الرُّبيع ، لقول الله تعالى: (( وَكَتَبْنَا عَلَيْهِمْ فِيهَا أَنَّ النَّفْسَ بِالنَّفْس )) إلى قوله : (( وَالسِّنَّ بِالسِّنّ )) فقال أخوها أنس بن النضر: والله يا رسول الله لا تكسر ثنية الرُّبيع، فقال يا أنس كتاب الله القصاص ، فقال: والله لا تكسر ثنية الربيع ) .
أقسم بهذا ليس ذلك رداً لحكم الله ورسوله ، ولكنه يحاول بقدر ما يستطيع أن يتكلم مع أهلها حتى يعفوا ويأخذوا الدية ، أو يعفوا مجاناً، كأنه واثق من أنه سيعمل ما يستطيع ، لا رداً لحكم الله ورسوله ، فيسر الله سبحانه وتعالى فعفى أهلها عنها ، ( عفى أهل الجارية عن القصاص، فقال النبي صلى الله عليه وآله وسلم : إن مِن عباد الله من لو أقسم على الله لأبره ) .
وهذا لا شكَّ أن الحامل لأنس بن النضر هو قوة رجائه بالله عز وجل ، وأن الله سييسر من الأسباب ما يمنع كسر ثنية أخته الرُّبيع .
أما الثاني : الذي أقسم على الله تألياً وتعاظماً وترفعاً فإن الله يخيب آماله، ومثال ذلك : ( الرجل الذي كان مطيعاً لله عز وجل عابداً، يمر على رجل عاص، كلما مر عليه وجده على المعصية، فقال: والله لا يغفر الله لفلان ) ، حمله على ذلك الإعجاب بنفسه، والتحجر بفضل الله ورحمته، واستبعاد رحمة الله عز وجل من عباده.
( فقال الله تعالى : مَن ذا الذي يتألى علي -يعني يحلف علي- ألا أغفر لفلان. قد غفرت له، وأحبطت عملك ) ، فانظر الفرق بين هذا وهذا.
فقول الرسول عليه الصلاة والسلام : ( إن من عباد الله ) ، ( مِن ) للتبعيض، ( إن من عباد الله من لو أقسم على الله لأبره ) ، وذلك فيمن أقسم على الله ثقة به، ورجاء لما عند الله عز وجل.
ثم قال عليه الصلاة والسلام : ( ألا أخبركم بأهل النار، كل عُتل جواظ مستكبر ) : هذه علامات أهل النار.
( عُتل ) : يعني أنه غليظ جاف، قلبه حجر والعياذ بالله ، كالحجارة أو أشد قسوة.
( جَوَّاظ مستكبر ) : الجواظ فيه تفاسير متعددة، قيل إنه الجموع المنوع، يعني الذي يجمع المال ويمنع ما يجب فيه، والظاهر أن الجوَّاظ هو : الرجل الذي لا يصبر، جوَّاظ يعني أنه جزوع لا يصبر على شيء، ويرى أنه في قمةٍ أعلى من أن يمسه شيء.
ومن ذلك قصة : ( الرجل الذي مع الرسول عليه الصلاة والسلام في غزوة، وكان شجاعاً لا يدع شاذة ولا فاذة للعدو إلا قضى عليها، فقال النبي صلى الله عليه وآله وسلم: إن هذا مِن أهل النار، فعظم ذلك على الصحابة، وقالوا: كيف يكون هذا من أهل النار وهو بهذه المثابة ؟ ثم قال رجل: والله لألزمنه -يعني لألازمه- حتى أنظر ماذا تكون حاله، فلزمه فأصابه سهم، -أصاب هذا الرجل الشجاع سهم من العدو- فعجز عن الصبر وجزع ، ثم أخذ بذبابة سيفه فوضعه في صدره ثم اتكأ عليه حتى خرج السيف من ظهره ، والعياذ بالله، فقتل نفسه، فجاء الرجل للرسول صلى الله عليه وسلم فقال : يا رسول الله أشهد أنك لرسول الله، قال: وبم ؟ قال: لأن الرجل الذي قلت إنه من أهل النار، فعل كذا وكذا، فقال النبي صلى الله عليه وآله وسلم: إن الرجل ليعمل بعمل أهل الجنة فيما يبدو للناس وهو من أهل النار ) ، فانظر إلى هذا الرجل جزع ، عجز أن يتحمل فقتل نفسه .
فالجوَّاظ هو الجزوع الذي لا يصبر، دائماً في أنين وحزن وهمّ وغمّ، معترضاً على القضاء والقدر، لا يخضع له، ولا يرضى بالله رباً .
وأما المستكبر فهو الذي جمع بين وصفين : غَمط الناس، وبَطَر الحق لأن النبي صلى الله عليه وآله وسلم قال : ( الكِبر بطَر الحق، وغَمْط الناس ) وبطر الحق: يعني رده، وغمط الناس: يعني احتقارهم، فهو في نفسه عال على الحق، وعال على الخلق، لا يلين للحق ولا يرحم الخلق والعياذ بالله.
فهذه علامات أهل النار، نسأل الله أن يعيذنا وإياكم من النار، وأن يدخلنا وإياكم الجنة، إنه جواد كريم .