شرح قول الإمام النووي رحمه الله تعالى فيما نقله : " ... وعن أبي سعيد الخدري رضي الله عنه عن النبي صلى الله عليه وسلم قال ( احتجت الجنة والنار فقالت النار في الجبارون والمتكبرون وقالت الجنة في ضعفاء الناس ومساكينهم فقضى الله بينهما إنك الجنة رحمتي أرحم بك من أشاء وإنك النار عذابي أعذب بك من أشاء ولكليكما علي ملؤها ) رواه مسلم ... " . حفظ
الشيخ : بسم الله الرحمن الرحيم :
قال المؤلف -رحمه الله تعالى- فيما نقله عن أبي سعيد الخدري رضي الله عنه، أن النبي صلى الله عليه وسلم قال : ( احتجّت الجنة والنار ) يعني: تحاجا فيما بينهما، كل واحدة تدلي بحجتها، وهذا من الأمور الغيبية التي يجب علينا أن نؤمن بها حتى وإن استبعدتها العقول ، يعني لو أن الإنسان قال: كيف تتحاج الجنة والنار وهما جمادان ؟!
فإننا نقول : إن الله سبحانه وتعالى على كل شيء قدير، وقد أخبر الله سبحانه وتعالى أن الأرض يوم القيامة تحدث أخبارها بما أوحى الله إليها به ، فإذا أمر الله شيئاً في شيء، فإن هذا المأمور سيستجيب على كل حال، الأيدي يوم القيامة والألسن والأرجل والجلود كلها تشهد، مع أنها جماد، وتشهد على صاحبها مع أنها أقرب الناس إليه، لأن الله سبحانه وتعالى على كل شيءِ قدير.
فالجنة احتجت على النار، والنار احتجت على الجنة : النار احتجت بأن فيها الجبارين والمتكبرين .
الجبارين أصحاب الغلظة والقسوة، والمتكبرون : أصحاب الترفع والعلو، الذين يغمطون الناس ويردون الحق، كما قال النبي عليه الصلاة والسلام في الكِبر : ( إنه بطر الحق وغَمط الناس ) ، فأهل الجبروت وأهل الكبرياء هم أهل النار والعياذ بالله، وربما يكون صاحب النار لينَ الجانب للناس، حسن الأخلاق، لكنه جبار بالنسبة للحق، مستكبر عن الحق، فلا ينفعه لينه، لين جانبه وعطفه على الناس، بل هو موصوف بالجبروت والكبرياء ولو كان لين الجانب للناس، لأنه تجبر واستكبر عن الحق .
أما الجنة فقالت : إن فيها ضعفاء الناس وفقراء الناس ، فهم في الغالب هم الذين يلينون للحق ، وينقادون له ، وأما أهل الكبرياء والجبروت ، فالغالب أنهم لا ينقادون .
فقضى الله بينهما عز وجل : ( فقال للجنة : أنت رحمتي أرحم بك من أشاء ، وقال للنار : أنت عذابي أعذب بك من أشاء ) : أنت رحمتي : يعني أنها الدار التي نشأت من رحمة الله، وليست رحمته التي هي صفته ، فإن رحمته التي هي صفته وصف قائم به ، لكن الرحمة هنا مخلوق ، أنتِ رحمتي : يعني خلقتك برحمتي، أرحم بك من أشاء .
وقال للنار : أنت عذابي أعذب بك من أشاء ، كقوله تعالى: (( يُعَذِّبُ مَنْ يَشَاءُ وَيَرْحَمُ مَنْ يَشَاءُ )) ، فأهل الجنة هم أهل رحمة الله ، أسأل الله أن يجعلني وإياكم منهم، وأهل النار هم أهل عذاب الله.
ثم قال عز وجل : ( ولكل واحدة منكما عليَّ ملؤها ) : تكفل عز وجل وأوجب على نفسه أن يملأ الجنة ويملأ النار، وفضل الله سبحانه وتعالى ورحمته أوسع مِن غضبه ، فإنه إذا كان يوم القيامة ألقى اللهُ مَن يلقي في النار، وهي تقول هل من مزيد، يعني أعطوني، أعطوني، زيدوا، زيدوا.
( فيضع الله عليها رجله، وفي لفظ عليها قدمه، فينزوي بعضها إلى بعض، -ينضم بعضها إلى بعض من أثر وضع الرب عز وجل عليها قدمه- وتقول: قط قط ) : يعني: كفاية كفاية، وهذا ملؤها، هذا ملؤها .
أما الجنة فإن الجنة واسعة، عرضها السَّمَوَاتِ والأرض يدخلها أهلها ويبقى فيها فضل زائد على أهلها، فينشىء الله تعالى لها أقواماً فيدخلهم الجنة بفضله ورحمته، لأن الله تكفل لها بملئها.
ففي هذا دليل على أن الفقراء والضعفاء هم أهل الجنة، لأنهم في الغالب هم الذين ينقادون للحق، وأن الجبارين المتكبرين هم أهل النار والعياذ بالله، لأنهم مستكبرون على الحق وجبارون ، لا تلين قلوبهم لذكر الله ، ولا لعباد الله ، نسأل الله لنا ولكم السلامة والعافية .