شرح قول الإمام النووي رحمه الله تعالى فيما نقله : " ... باب الإنفاق مما يحب ومن الجيد . قال الله تعالى (( لن تنالوا البر حتى تنفقوا مما تحبون )) وقال تعالى: (( يا أيها الذين آمنوا أنفقوا من طيبات ما كسبتم ومما أخرجنا لكم من الأرض ولا تيمموا الخبيث منه تنفقون )) . عن أنس رضي الله عنه قال: كان أبو طلحة رضي الله عنه أكثر الأنصار بالمدينة مالا من نخل وكان أحب أمواله إليه بيرحاء وكانت مستقبلة المسجد وكان رسول الله صلى الله عليه وسلم يدخلها ويشرب من ماء فيها طيب قال أنس فلما نزلت هذه الآية (( لن تنالوا البر حتى تنفقوا مما تحبون )) جاء أبو طلحة إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم فقال يا رسول الله إن الله تعالى أنزل عليك: (( لن تنالوا البر حتى تنفقوا مما تحبون )) وإن أحب مالي إلى بيرحاء وإنها صدقة لله تعالى أرجو برها وذخرها عند الله تعالى فضعها يا رسول الله حيث أراك الله . فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم ( بخ ذلك مال رابح ذلك مال رابح وقد سمعت ما قلت وإني أرى أن تجعلها في الأقربين ) . فقال أبو طلحة أفعل يا رسول الله فقسمها أبو طلحة في أقاربه وبني عمه متفق عليه ... " . حفظ
الشيخ : بسم الله الرحمن الرحيم :
قال المؤلف -رحمه الله تعالى- : " باب الإنفاق مما يجب ومن الطيب " :
لما ذكر -رحمه الله- وجوب الإنفاق على الزوجة وعلى الأقارب، ذكر أنه ينبغي للإنسان أن يكون ذا همة عالية، وأن ينفق مِن أطيب ماله ومما يحب من ماله، وهناك فرق بين الأطيب وبين الذي يُحب، الغالب أن الإنسان لا يحب إلا أطيب ماله، لكن أحياناً يتعلق قلبه بشيء من ماله وليس أطيب ماله ، فإذا أنفق مِن الطيب الذي هو محبوب لعامة الناس ومما يحبه هو بنفسه وإن لم يكن من الطيب، كان ذلك دليلاً على أنه صادق فيما عامل الله به، ولهذا سُميت الصدقة صدقة، لدلالتها على صدق باذلها، فالإنسان ينبغي له أن ينفق من الطيب، من أطايب ماله، وينبغي له أن ينفق ما يحب، حتى يصدق في تقديم ما يحبه الله عز وجل على ما تهواه نفسه.
ثم استدل المؤلف -رحمه الله- بآيتين من كتاب الله، فقال : " وقول الله تعالى: (( لَنْ تَنَالُوا الْبِرَّ حَتَّى تُنْفِقُوا مِمَّا تُحِبُّونَ )) " : البر : يعني الخير الكثير، ومنه سمي البَرُّ بالخلاء الواسع، فالبر هو الخير الكثير، يعني لن تنال الخير الكثير ولن تنال رتبة الأبرار حتى تنفق مما تحب.
والمال كله محبوب لكن بعضه أشد محبة من بعض، فإذا أنفقت مما تحب، كان ذلك دليلاً على أنك صادق، ثم نلت بذلك مرتبة الأبرار.
وقال تعالى : (( وَلا تَيَمَّمُوا الْخَبِيثَ مِنْهُ تُنْفِقُونَ وَلَسْتُمْ بِآخِذِيهِ إِلَّا أَنْ تُغْمِضُوا فِيهِ )) : الخبيث من كل شيء بحسبه، فالخبيث من المال يطلق على الرديء، ويطلق على الكسب الرديء، ويطلق على الحرام.
فمن إطلاقه على الرديء قوله تعالى : (( وَلا تَيَمَّمُوا الْخَبِيثَ مِنْهُ تُنْفِقُونَ وَلَسْتُمْ بِآخِذِيهِ إِلَّا أَنْ تُغْمِضُوا فِيهِ )) : هذا بقية الآية التي أولها قوله تعالى : (( يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا أَنْفِقُوا مِنْ طَيِّبَاتِ مَا كَسَبْتُمْ وَمِمَّا أَخْرَجْنَا لَكُمْ مِنَ الْأَرْضِ )) : والخارج من الأرض منه الطيب ومنه الرديء، قال : (( وَلا تَيَمَّمُوا الْخَبِيثَ )) أي: لا تقصدوا الخبيث وهو الرديء تنفقون منه، (( وَلَسْتُمْ بِآخِذِيهِ إِلَّا أَنْ تُغْمِضُوا فِيهِ )) : يعني لو كان الحق لكم ما أخذتم الرديء إلا على إغماض وعلى كُره، فكيف ترضون لغيركم أن تعطوه الرديء وأنتم تأبون أن تأخذوه؟! وهذا من باب الاستدلال على الإنسان بما يُقر به ويعترف به : أنه لا يرضى أن يأخذ الرديء بدلاً عن الطيب ، فكيف يرضى أن يعطي الرديء بدلاً عن الطيب؟!
فالخبيث هنا بمعنى الرديء ، ومن ذلك أيضاً تسمية النبي صلى الله عليه وسلم البصل والكراث الشجرة الخبيثة، لأنها رديئة منتنة كريهة، حتى إن الإنسان إذا أكل منها وبقيت رائحتها في فمه فإنه يحرم عليه أن يدخل المسجد، لا للصلاة ولا لغير الصلاة، لأن المسجد معمور بالملائكة فإذا دخل المسجد آذى الملائكة، والملائكة طيبون، والطيبون للطيبات، تكره الخبائث من الأعمال والأعيان، فإذا دخلت المسجد وأنت ذو رائحة كريهة آذيت الملائكة .
وكان الرجل في عهد الرسول عليه الصلاة والسلام إذا دخل المسجد وقد أكل كُراثاً أو بصلاً طردوه طرداً إلى البقيع، البقيع تعرفون المسافة بينه وبين المسجد النبوي بعيدة، يُطرد إلى البقيع، لا يقرب المسجد.
ونأسف أن بعض الناس، نسأل الله لنا ولهم الهداية والعصمة، يشرب الدخان أو الشيشة ويأتي إلى المسجد ورائحة الدخان والشيشة في فمه أو على ثيابه، مع أن هذه رائحة كريهة كلٌ يكرهها، حتى إن بعض الناس ما يستطيع أن يصلي جنب مثل هؤلاء، وهؤلاء يحرم عليهم أن يدخلوا المسجد والروائح الكريهة فيهم.
وكذلك من به إصنان، الإصنان رائحة كريهة تفوح من إبطيه، أو تفوح من أذنيه، أو تفوح من رأسه وتؤذي، فإنه لا يجوز أن يصلي ما دامت الرائحة المؤذية فيه، لا يجوز أن يدخل المسجد بل يبتعد .
والحمد لله، هذه مِن المصائب والبلاوي، إذا ابتلي بمثل هذا لا يقول : أنا كيف أحرم نفسي المسجد، نقول : هذا من الله عز وجل، احرم نفسك المسجد ولا تؤذي الناس والملائكة، وحاول بقدر ما تستطيع أن تتخلص من هذه الرائحة، إما بالتنظيف التام، أو بأن تضع روائح طيبة تغطي الرائحة الكريهة، هذا يمكن أن تُعالج بأن يستعمل الإنسان روائح طيبة تغطي الرائحة الكريهة، ويكون الذي يشم ما يشم إلا الرائحة الطيبة .