شرح قول الإمام النووي رحمه الله تعالى فيما نقله : " ... وعن عبد الله بن مسعود رضي الله عنه قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: ( ليلني منكم أولوا الأحلام والنهى ثم الذين يلونهم ثلاثا وإياكم وهيشات الأسواق ) . رواه مسلم . وعن سهل بن أبي حثمة الأنصاري رضي الله عنه قال: انطلق عبد الله بن سهل ومحيصة ابن مسعود إلى خيبر وهي يومئذ صلح فتفرقا فأتى محيصة إلى عبد الله بن سهل وهو يتشحط في دمه قتيلا فدفنه ثم قدم المدينة فانطلق عبد الرحمن بن سهل ومحيصة وحويصة ابنا مسعود إلى النبي صلى الله عليه وسلم فذهب عبد الرحمن يتكلم فقال ( كبر كبر ) وهو أحدث القوم فسكت فتكلما فقال ( أتحلفون وتستحقون قاتلكم ) وذكر تمام الحديث متفق عليه . وعن جابر رضي الله عنه أن النبي صلى الله عليه وسلم كان يجمع بين الرجلين من قتلى أحد يعني في القبر ثم يقول ( أيهما أكثر أخذا للقرآن ) فإذا أشير له إلى أحدهما قدمه في اللحد رواه البخاري . وعن ابن عمر رضي الله عنهما أن النبي صلى الله عليه وسلم قال ( أراني في المنام أتسوك بسواك فجاءني رجلان أحدهما أكبر من الآخر فناولت السواك الأصغر فقيل لي كبر فدفعته إلى الأكبر منهما ) رواه مسلم مسندا والبخاري تعليقا . وعن أبي موسى رضي الله عنه قال قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: ( إن من إجلال الله تعالى إكرام ذي الشيبة المسلم وحامل القرآن غير الغالي فيه والجافي عنه وإكرام ذي السلطان المقسط ) حديث حسن رواه أبو داود ... " . حفظ
الشيخ : بسم الله الرحمن الرحيم :
هذه الأحاديث فيها الإشارة إلى ما سبق عن المؤلف -رحمه الله- من إكرام أهل العلم وأهل الفضل والكبير، فمن ذلك حديث عبد الله بن مسعود رضي الله عنه، أن النبي صلى الله عليه وآله وسلم قال: ( ليلني منكم أولو الأحلام والنهي، ثم الذين يلونهم ) قال ذلك ثلاثاً، ( وإياكم وهيشات الأسواق ) : قوله: ( ليلني منكم ) : اللام هنا للأمر، والمعنى أنه في الصلاة ينبغي أن يتقدم أولو الأحلام والنهى .
أولو الأحلام: يعني الذين بلغوا الحلم وهم البالغون، والنُهى جمع نهية وهي العقل، يعني العقلاء، فالذي ينبغي أن يتقدم في الصلاة العاقلون البالغون، لأن ذلك أقرب إلى فهم ما يقوله النبي عليه الصلاة والسلام أو ما يفعله، من الصغار ونحوهم، فلهذا حث النبي صلى الله عليه وآله وسلم على أن يتقدم هؤلاء حتى يلوا الإمام.
وليس معنى الحديث: لا يلني إلا أولو الأحلام والنُهى، بحيث نطرد الصبيان عن الصف الأول، فإن هذا لا يجوز. لا يجوز طرد الصبيان عن الصف الأول إلا أن يحدث منهم أذية، فإن لم يحصل منهم أذية فإن من سبق إلى ما لم يسبق إليه أحد أحق به.
وهناك فرق بين أن تكون العبارة النبوية: لا يلني إلا أولو الأحلام، وبين قوله: ليلني أولو الأحلام، فالثانية تحث الكبار العقلاء على التقدم، والأولى لو قدر أنها هي نص الحديث، لكان يُنهى أن يلي الإمام من ليس بالغاً، أو ليس عاقلاً.
وعلى هذا فنقول: إن أولئك الذين يطردون الصبيان عن الصف الأول أخطؤوا من جهة أنهم منعوا ذوي الحقوق حقوقهم، فإن النبي صلى الله عليه وآله وسلم قال: ( من سبق إلى ما لم يَسبق إليه مسلم فهو أحق به ) .
ومن جهة أخرى أنهم يكرهون الصبيان المساجد، يعني أن الصبي يبدأ ينفر عن المسجد إذا كان يُطرد عنه.
ومنها أن هذه لا تزال عُقدة في نفسه على الذي طرده فتجده يكرهه، ويكره ذكره، فمن أجل هذه المفاسد نقول: لا تطردوا الصبيان من أوائل الصفوف.
ثم إننا إذا طردناهم من أوائل الصفوف حصل منهم لعب، لو كانوا كلهم في صف واحد كما يقوله من يقوله من أهل العلم، لحصل منهم من اللعب ما يوجب اضطراب المسجد، واضطراب أهل المسجد، ولكن إذا كانوا مع الناس في الصف الأول ومتفرقين، فإن ذلك أسلم من الفوضى التي تحصل بكونهم يجتمعون في صف واحد.
وقوله عليه الصلاة والسلام: ( ليلني منكم أولو الأحلام والنهي ) : يستفاد منه أن الدنو من الإمام له شأن، أن الدنو من الإمام له شأن مطلوب، ولهذا قال: ليلني : أي يكون هو الذي يليني.
وعلى هذا فنقول: إذا كان يمين الصف بعيداً، وأيسر الصف أقرب منه بشكل واضح، فإن الصف الأيسر أفضل من الأيمن، مِن أجل دنوه من الإمام، ولأنه لما كان الناس في أول الأمر إذا كان إمامٌ واثنان معه، فإنهما يكونان عن يمينه واحد، وعن شماله واحد، ولا يكون كلاهما عن اليمين، فدل هذا على مراعاة الدنو من الإمام، وتوسط الإمام من المأمومين.
ولكن هذا الأمر -أي كون الإمام واثنان معه يكونان في صف واحد-، هذا نسخ، وصار الإمام إذا كان معه اثنان يصفان خلفه، ولكن كونه حين كان مشروعاً يُجعل أحدهما عن اليمين والثاني عن اليسار يدل على أنه ليس الأيمن أفضل مُطلقاً، بل أفضل من الأيسر إذا كان مقارباً أو مثله، أما إذا تميز بميزة بيّنة، فاليسار مع الدنو من الإمام أفضل.
وفي حديث الرؤيا التي رآها النبي صلى الله عليه وآله وسلم : ( أنه كان عليه الصلاة والسلام يتسوك ، فجاءه رجلان فأراد أن يعطيه الأصغر، فقيل لي: كبّر كبّر ) : فيه أيضاً دليل على اعتبار الكبر، وأنه يقدم الأكبر في إعطاء الشيء.
ومن ذلك إذا قدمت الطعام، مثلاً القهوة، أتيت بالقهوة أو بالشاهي فلا تبدأ باليمين، ابدأ بالأكبر الذي أمامك، لأن النبي عليه الصلاة والسلام لما أراد أن يعطيه الأصغر قيل له كبّر، ومعلوم أنه لو كان الأصغر هو الأيسر ما ذهب الرسول عليه الصلاة والسلام يعطيه إياه، الظاهر أنه الأيمن من أجل التيامن، لكن قيل له : كبّر يعني : أعطه الأكبر، فهذا إذا كان الناس أمامك فابدأ بالكبير، لا تبدأ باليمين، أما إذا كانوا جالسين على اليمين وعن الشمال فابدأ باليمين.
وبهذا يُجمع بين الأدلة الدالة على اعتبار التكبير أي مراعاة الكبير، وعلى اعتبار الأيمن، أي مراعاة الأيمن، فنقول: إذا كانت القصة كما جاء عن النبي عليه الصلاة والسلام: أنه كان معه إناء يشرب منه، وعلى يساره الأشياخ وعلى يمينه ابن عباس، فأعطاه ابن عباس رضي الله عنه، لأنه هو الأيمن، وقال : ( الأيمنون الأيمنون )، فإذا كان هكذا فأعط من على يمينك، أما الذين أمامك فابدأ بالكبير، كما تدل عليه السنة، وهذا هو وجه الجمع بينهما.
ثم إن الإنسان إذا أعطاه الكبير، يعني صبَّ الفنجان وأعطاه الكبير، فمن يعطي بعده؟ هل هو الذي على يمين الكبير ويكون عن يسار الصاب، أم الذي عن يمين الصاب؟
نقول: يبدأ بالذي عن يمين الصاب وإن كان على يسار الكبير، لأننا إذا اعتبرنا التيامن بعد مراعاة الكِبر، فالذي على يمينك هو الذي عن يسار مقابلك فتبدأ به، ما لم يسمح بعضهم لبعض، ويقول: أعطه فلاناً أعطه فلاناً، فالحق لهم، لهم أن يسقطوه، والله أعلم.
هذه الأحاديث فيها الإشارة إلى ما سبق عن المؤلف -رحمه الله- من إكرام أهل العلم وأهل الفضل والكبير، فمن ذلك حديث عبد الله بن مسعود رضي الله عنه، أن النبي صلى الله عليه وآله وسلم قال: ( ليلني منكم أولو الأحلام والنهي، ثم الذين يلونهم ) قال ذلك ثلاثاً، ( وإياكم وهيشات الأسواق ) : قوله: ( ليلني منكم ) : اللام هنا للأمر، والمعنى أنه في الصلاة ينبغي أن يتقدم أولو الأحلام والنهى .
أولو الأحلام: يعني الذين بلغوا الحلم وهم البالغون، والنُهى جمع نهية وهي العقل، يعني العقلاء، فالذي ينبغي أن يتقدم في الصلاة العاقلون البالغون، لأن ذلك أقرب إلى فهم ما يقوله النبي عليه الصلاة والسلام أو ما يفعله، من الصغار ونحوهم، فلهذا حث النبي صلى الله عليه وآله وسلم على أن يتقدم هؤلاء حتى يلوا الإمام.
وليس معنى الحديث: لا يلني إلا أولو الأحلام والنُهى، بحيث نطرد الصبيان عن الصف الأول، فإن هذا لا يجوز. لا يجوز طرد الصبيان عن الصف الأول إلا أن يحدث منهم أذية، فإن لم يحصل منهم أذية فإن من سبق إلى ما لم يسبق إليه أحد أحق به.
وهناك فرق بين أن تكون العبارة النبوية: لا يلني إلا أولو الأحلام، وبين قوله: ليلني أولو الأحلام، فالثانية تحث الكبار العقلاء على التقدم، والأولى لو قدر أنها هي نص الحديث، لكان يُنهى أن يلي الإمام من ليس بالغاً، أو ليس عاقلاً.
وعلى هذا فنقول: إن أولئك الذين يطردون الصبيان عن الصف الأول أخطؤوا من جهة أنهم منعوا ذوي الحقوق حقوقهم، فإن النبي صلى الله عليه وآله وسلم قال: ( من سبق إلى ما لم يَسبق إليه مسلم فهو أحق به ) .
ومن جهة أخرى أنهم يكرهون الصبيان المساجد، يعني أن الصبي يبدأ ينفر عن المسجد إذا كان يُطرد عنه.
ومنها أن هذه لا تزال عُقدة في نفسه على الذي طرده فتجده يكرهه، ويكره ذكره، فمن أجل هذه المفاسد نقول: لا تطردوا الصبيان من أوائل الصفوف.
ثم إننا إذا طردناهم من أوائل الصفوف حصل منهم لعب، لو كانوا كلهم في صف واحد كما يقوله من يقوله من أهل العلم، لحصل منهم من اللعب ما يوجب اضطراب المسجد، واضطراب أهل المسجد، ولكن إذا كانوا مع الناس في الصف الأول ومتفرقين، فإن ذلك أسلم من الفوضى التي تحصل بكونهم يجتمعون في صف واحد.
وقوله عليه الصلاة والسلام: ( ليلني منكم أولو الأحلام والنهي ) : يستفاد منه أن الدنو من الإمام له شأن، أن الدنو من الإمام له شأن مطلوب، ولهذا قال: ليلني : أي يكون هو الذي يليني.
وعلى هذا فنقول: إذا كان يمين الصف بعيداً، وأيسر الصف أقرب منه بشكل واضح، فإن الصف الأيسر أفضل من الأيمن، مِن أجل دنوه من الإمام، ولأنه لما كان الناس في أول الأمر إذا كان إمامٌ واثنان معه، فإنهما يكونان عن يمينه واحد، وعن شماله واحد، ولا يكون كلاهما عن اليمين، فدل هذا على مراعاة الدنو من الإمام، وتوسط الإمام من المأمومين.
ولكن هذا الأمر -أي كون الإمام واثنان معه يكونان في صف واحد-، هذا نسخ، وصار الإمام إذا كان معه اثنان يصفان خلفه، ولكن كونه حين كان مشروعاً يُجعل أحدهما عن اليمين والثاني عن اليسار يدل على أنه ليس الأيمن أفضل مُطلقاً، بل أفضل من الأيسر إذا كان مقارباً أو مثله، أما إذا تميز بميزة بيّنة، فاليسار مع الدنو من الإمام أفضل.
وفي حديث الرؤيا التي رآها النبي صلى الله عليه وآله وسلم : ( أنه كان عليه الصلاة والسلام يتسوك ، فجاءه رجلان فأراد أن يعطيه الأصغر، فقيل لي: كبّر كبّر ) : فيه أيضاً دليل على اعتبار الكبر، وأنه يقدم الأكبر في إعطاء الشيء.
ومن ذلك إذا قدمت الطعام، مثلاً القهوة، أتيت بالقهوة أو بالشاهي فلا تبدأ باليمين، ابدأ بالأكبر الذي أمامك، لأن النبي عليه الصلاة والسلام لما أراد أن يعطيه الأصغر قيل له كبّر، ومعلوم أنه لو كان الأصغر هو الأيسر ما ذهب الرسول عليه الصلاة والسلام يعطيه إياه، الظاهر أنه الأيمن من أجل التيامن، لكن قيل له : كبّر يعني : أعطه الأكبر، فهذا إذا كان الناس أمامك فابدأ بالكبير، لا تبدأ باليمين، أما إذا كانوا جالسين على اليمين وعن الشمال فابدأ باليمين.
وبهذا يُجمع بين الأدلة الدالة على اعتبار التكبير أي مراعاة الكبير، وعلى اعتبار الأيمن، أي مراعاة الأيمن، فنقول: إذا كانت القصة كما جاء عن النبي عليه الصلاة والسلام: أنه كان معه إناء يشرب منه، وعلى يساره الأشياخ وعلى يمينه ابن عباس، فأعطاه ابن عباس رضي الله عنه، لأنه هو الأيمن، وقال : ( الأيمنون الأيمنون )، فإذا كان هكذا فأعط من على يمينك، أما الذين أمامك فابدأ بالكبير، كما تدل عليه السنة، وهذا هو وجه الجمع بينهما.
ثم إن الإنسان إذا أعطاه الكبير، يعني صبَّ الفنجان وأعطاه الكبير، فمن يعطي بعده؟ هل هو الذي على يمين الكبير ويكون عن يسار الصاب، أم الذي عن يمين الصاب؟
نقول: يبدأ بالذي عن يمين الصاب وإن كان على يسار الكبير، لأننا إذا اعتبرنا التيامن بعد مراعاة الكِبر، فالذي على يمينك هو الذي عن يسار مقابلك فتبدأ به، ما لم يسمح بعضهم لبعض، ويقول: أعطه فلاناً أعطه فلاناً، فالحق لهم، لهم أن يسقطوه، والله أعلم.