شرح ما تقدم قراءته من أحاديث وآيات الباب . حفظ
الشيخ : قال المؤلف -رحمه الله تعالى- : " باب البكاء من خشية الله عزّ وجلّ " : يعني خوفا منه وشوقا إليه تبارك وتعالى، وذلك أن البكاء له أسباب، تارة يكون خوفا، وتارة يكون الألم، أسبابه: الخوف، الألم، الشوق، وغير ذلك من الأسباب التي يعرفها الناس، ولكن البكاء من خشية الله إما خوفا منه وإما شوقا إليه تبارك وتعالى، فإذا كان البكاء من معصية فعلها الإنسان فهذا البكاء سببه الخوف من الله عزّ وجلّ، وإذا كان عن طاعة فعلها كان هذا البكاء شوقا إلى الله سبحانه وتعالى، وذكر المؤلف -رحمه الله- آيتين: آية فيها الثّناء على الذين يبكون من خشية الله، وهي قوله تعالى: (( إن الذين أوتوا العلم مِن قبله )) أي: من قبل القرآن، أوتوا العلم من قبل القرآن، وهم أهل الكتاب، (( إذا يُتلى عليهم يخرّون إلى الأذقان سجّدا ويقولون سبحان ربّنا إن كان وعد ربّنا لمفعولاً )) : يعني إنه كان مفعولاً وعد الله، فإن هنا توكيد، (( ويخرّون للأذقان يبكون ويزيدهم خشوعًا )) ، (( ويخرّون للأذقان )) : يعني عليها، والمراد المبالغة في السجود حتى تكاد أذقانهم تضرب الأرض من شدّة المبالغة في سجودهم ، (( ويزيدهم خشوعاً )) : خشوعاً في القلب يظهر أثره وعلامته على الجوارح.
والآية الثانية قوله تعالى: (( أفِمن هذا الحديث تعجبون * وتضحكون ولا تبكون )) :وهذا ذمّ لهم أن يضحك الإنسان من القرآن ويعجب منه عجب استنكار وسخريّة ولا يبكي منه، والقرآن أعظم واعظ يعظ الله به القلوب، لكنه إذا وَرَد على قلوب كالحجارة والعياذ بالله لا تلين، ولكن تتكسّر وتزداد صلابة نسأل الله العافية، ثم ذكر المؤلف حديث ابن مسعود رضي الله عنه: ( أن النبي صلى الله عليه وعلى آله وسلّم طلب منه أن يقرأ عليه فقال: يا رسول كيف أقرأ عليك وعليك أنزل؟ ) : يعني أنت أعلم به منّي فكيف أقرأه عليك؟ قال : ( إنّي أحب أن أسمعه من غيري ) : هكذا قال النّبي عليه الصّلاة والسّلام، وفيه دليل على أنّ الإنسان قد يكون إنصاتُه لقراءة غيره أخشع لقلبه مما لو قرأه هو، وهو كذلك أحيانا، أحيانا إذا سمعت القرآن من غيرك خشعت وبكيت، لكن لو قرأته أنت ما حصلت لك هذه الحال، فقرأ عليه سورة النّساء، فلما بلغ هذه الآية العظيمة: (( فكيف إذا جئنا مِن كلّ أمّة بشهيد وجئنا بك على هؤلاء شهيدا )) : يعني ماذا تكون الحال؟ ماذا تكون حالك وماذا تكون حالهم؟ كيف: يعني استفهام يشدّ النفس وينبه القلب: (( إذا جئنا من كلّ أمّة بشهيد )) : يوم القيامة، الشّهداء طائفتان من الناس: الطائفة الأولى: الأنبياء والرّسل عليهم الصّلاة والسّلام، كما قال تعالى: (( ويكون الرسول عليكم شهيدا ))، والثانية: أهل العلم، الذين ورثوا الأنبياء فإنهم شهداء بعد أن يموت الأنبياء، فإن الشّهداء على الخلق العلماء، يشهدون بأن الرسل بلغوا ويشهدون على الأمّة بأن الرسالة بلغتهم، ويالها من مزية عظيمة لأهل العلم: أن يكونوا هم شهداء الله في أرضه، يقول: (( فكيف إذا جئنا من كلّ أمّة بشهيد وجئنا بك على هؤلاء شهيدا ))، وقد ذكر الله في سورة الجاثية: (( وترى كلّ أمّةٍ جاثية )) : على ركبها (( كلّ أمّة تدعى إلى كتابها )) : كتاب الأعمال، أو إلى كتابها الذي أنزل عليها بالوحي، (( اليوم تجزون ما كنتم تعملون ))، يقول: (( فكيف إذا جئنا من كلّ أمّة بشهيد وجئنا بك )) : يعني يا محمّد على هؤلاء الأمّة، (( شهيدا )) ماذا تكون الحال؟ فقال ( حسبك هذا ) ، يقول الرسول عليه الصلاة والسلام، يعني يكفي، ثمّ نظر إليه ( فإذا عيناه تذرفان عليه الصلاة والسلام ): خوفا من هذه الحال الرّهيبة العظيمة، ففي هذا دليل على البكاء من قراءة القرآن، وأن الإنسان يبكي من قراءة القرآن.
وذكر حديثا آخر سبق لنا وهو أن الرسول عليه الصلاة والسلام قال: ( لو تعلمون ما أعلم لضحكتم قليلا ولبكيتم كثيرا ) : يعني لو تعلمون ما أعلم من حقائق الأمور التي أخفاها الله عنكم وعَلِمها الرسول عليه الصلاة والسلام، أخفاها الله تعالى عن الخلق رحمة بهم، وعلمها النبي صلى الله عليه وآله وسلّم ولكنّه لم يُؤمر بإبلاغها للناس، وقد يكون المراد بذلك حقائق ما أخبر به أنه يعلم شيئا من الحقائق لا يعلمه الناس فالله أعلم، لما قال: ( لو تعلمون ما أعلم لضحكتم قليلا ولبكيتم كثيرا ) : غطى الصحابة وجوههم، غطّوا وجوههم ولهم خَنين، يعني صوت، أصوات بكاء، يبكون، لأن المراد بقول الرسول عليه الصّلاة والسلام: ( لو تعلمون ما أعلم ) : التحذير مما علمه عليه الصّلاة والسّلام، فجعلوا يبكون رضي الله عنهم وأرضاهم، وهذا يدل على كمال إيمانهم، وكمال تصديقهم بما أخبر به الرسول صلى الله عليه وآله وسلم.
ثم ذكر المؤلف حديث أبي هريرة المشهور وقد سبق أيضا: ( سبعة يظلهم الله في ظله يوم لا ظلّ إلاّ ظلّه ) وذكر منهم: ( رجل ذكر الله خاليًا ففاضت عيناه ) : ذكرَ اللهَ بأسمائه وصفاته وأفعاله وأحكامه وآياته، ذكر الله ففاضت عيناه إما شوقا إليه، وإما خوفاً منه، فهذا من الذين يظلهم الله في ظلّه يوم لا ظلّ إلاّ ظلّه.
والمراد بالظلّ هنا ظل يخلقه الله عزّ وجلّ يوم القيامة يُظلل من شاء مِن عباده، وليس المراد ظل نفسه جلّ وعلا، لأن الله نور السماوات والأرض ولا يمكن أن يكون الله ظلا من الشمس، فتكون الشمس فوقه وهو بينه وبين الخلق، من فهم هذا الفهم فهو بليد، أبلد من الحمار، لأنه لا يمكن أن يكون الله عزّ وجلّ تحت شيء من مخلوقاته، فهو العليّ الأعلى، ثم هو نور السّماوات والأرض، قال النبيّ عليه الصلاة والسلام: ( حجابه ) يعني حجاب الله ( النور لو كشفه لأحرقت سُبحات وجهه ما انتهى إليه بصره مِن خلقه ) : يعني لو كشف هذا الحجاب، والحُجب أيضا من نور لكنّها نور دون نور الباري عزّ وجلّ، لو كشف الله هذا النور ( لأحرقت سبحات وجهه ) : أي بهاؤه وعظمته ونوره ( ما انتهى إليه بصره من خلقه ) : وبصره ينتهي إلى كلّ شيء، والمعنى لو كشفه لأحرق هذا النور كلّ شيء، كيف يكون المراد بالظل ظل الرب عزّ وجلّ؟ لكن كما قلت لكم: بعض الناس أجهل من الحمار، لا يدري ماذا يترتب على قوله الذي يقوله في تفسير كلام الله وكلام رسوله، ولا يمكن أن يريد الرسول عليه الصّلاة والسّلام هذا، حتى الرواية التي وردت في ظل عرشه فيها نظر، لأن المعروف أن العرش أكبر من السّماوات والأرض والشمس والقمر والنجوم، السماوات السبع والأرضين السبع بالنّسبة للكرسي كحلقة أُلقيت في فلاة من الأرض، وفضل العرش على الكرسي كفضل الفلاة على هذه الحلقة، فكيف يكون العرش تحت الشّمس يُظل الناس؟ لو صحّ الحديث لقلنا: ربما يكون طرف العرش مثلا، والله عزّ وجلّ على كل شيء قدير، لكن هذه اللفظة في صحّتها نظر، والصواب أنه ظلّ يخلقه الله عزّ وجلّ في ذلك اليوم إمَّا من الغمام أو من غير ذلك، الله أعلم، لكنّه ظلّ يستر الله به من شاء من عباده عن حرّ الشمس، وإنما قال: ( يوم لا ظل إلاّ ظلّه ) ، نعم لأننا في الدّنيا نستظلّ بالبناء الذي نبني، نستظل بالأشجار التي نغرس، نستظلّ بسفوح الجبال، بالجدران، بغير ذلك، نستظلّ بأشياء نحن نصنعها بأيدينا، وبأشياء خلقها الله عزّ وجلّ، لكن في الآخرة ما فيها ظلّ، قال الله تعالى: (( ويسألونك عن الجبال فقل ينسفها ربي نسفاً )) : كل الجبال تنسف، مهما عظُمت، أكبر الجبال وأعظمها تُنسف: تكون رملا هباء منثورا، تطير في الجوّ، (( وترى الجبال تحسبها جامدة وهي تمرّ مرّ السّحاب * صُنع الله الذي أتقن كلّ شيء )) : في الهواء تطير، وأنت تظنها جامدة لا تتحرّك، لا، تتحرك وقد سمعت عن بعض الناس المتأخرين يقول: (( وترى الجبال تحسبها جامدة )) : يعني في الدّنيا، وأن هذا بناء على أن الأرض تدور، وعلّل ذلك بأن يوم القيامة يقيني، ليس فيه شيء من الحسبان، وهذا من جهله وعدم معرفته، لأن الله قال: (( يا أيها الناس اتقوا ربّكم إن زلزلة الساعة شيء عظيم * يوم ترونها تذهل كلّ مرضعة عمّا أرضعت * وتضع كلّ ذاتِ حمل حملها وترى الناس سكارى وما هم بسكارى )) : هؤلاء يرونهم على خلاف الواقع، فالأمر إذا ذهل الإنسان، إذا ذُهل ولو كان أمامه شيء متيقّن تضيع حواسّه وإدراكاته، المهم أن قوله: ( يوم لا ظل إلاّ ظلّه ) أي : إلاّ الظلّ الذي يخلقه الله عزّ وجلّ ليظلّ به من شاء من عباده، وهذا هو الشاهد قوله: ( ورجل ذكر الله خاليا ففاضت عيناه ).
فأنت يا أخي إذا ذكرت الله فاذكر ربّك خاليَ القلب، لا تفكّر بشيء، إذا فكّرت بشيء، لم يحصل لك أن تبكي من خشية الله أو الشوق إليه، لأنه لا يمكن أن يبكي الإنسان وقلبه مشغول بشيء آخر، كيف تبكي شوقًا إلى الله وخوفًا منه وقلبك مشغول بغيره؟ لا يمكن، ولهذا قال : ( ذكر الله خاليا ) يعني خالي القلب مما سوى الله عزّ وجلّ، خالي الجسم أيضا ليس عنده أحد حتّى لا يكون بكاؤه رياء وسمعة ، فهو مخلص حاضر القلب، فهذا أيضا ممن يظلهم الله في ظله يوم لا ظلّ إلاّ ظلّه، أسأل الله أن يظلّني وإيّاكم في ظلّه يوم لا ظلّ إلاّ ظلّه، والحمد لله ربّ العالمين وصلى الله وسلّم على نبيّنا محمّد.