شرح ما تقدم قراءته من أحاديث الباب . حفظ
الشيخ : بسم الله الرحمن الرحيم :
هذه الأحاديث ساقها المؤلف في باب : " الزّهد في الدّنيا وترك المكاثرة فيها والرغبة في الآخرة والمتاجرة فيها " :
فذكر حديث ابن عمر رضي الله عنهما قال : ( أخذ النبي صلى الله عليه وسلم بمنكبي ) : وأخذ بمنكبه من أجل أن يستعدّ لما يلقيه له فينتبه، فقال: ( كن في الدّنيا كأنك غريب أو عابر سبيل ) : يحتمل أن هذا من باب الشّكّ، هل قال الرسول صلى الله عليه وآله وسلم الأول أو الثاني، ويحتمل أنه من باب التنويع، يعني كن كالغريب الذي لا يداخل الناس، ولا يهتمّ بالناس ولا يُعرف بين الناس، أو كأنّك عابر سبيل تريد أن تأخذ ما تحتاجه في سفرك وأنت ماشٍ، وهذا التمثيل الذي ذكره النبي صلى الله عليه وآله وسلم هو الواقع، لأن الإنسان في هذه الدّنيا مسافر، فالدّنيا ليست دار مقرّ بل هي دار ممرّ سريع، راكبه لا يَفتر ليلا ولا نهارا، المسافر ربّما ينزل منزلا فيستريح، ولكنّ مسافر الدّنيا لا ينزل، هو دائما في سفر، كلّ لحظة فإنك تقطع بها شوطا من هذه الدّنيا لتقرب من الآخرة، فما ظنّكم بسفر لا يفتؤ صاحبه يمشي ويسير، أليس ينتهي بسرعة؟! الجواب: بلى، ولهذا قال الله سبحانه وتعالى: (( كأنهم يوم يرونها لم يلبثوا إلاّ عشية أو ضحاها )) ، والإنسان ينبغي له أن يقيس ما يُستقبل من عمره بما مضى، فالذي مضى كأنه لا شيء، حتى أمسك الأدنى كأنك لم تمرّ به، كأنه حُلْم، فما يُستقبل من دنياك فهو كالذي تقدّم، ولهذا لا ينبغي الركون إلى الدّنيا، وكان ابن عمر رضي الله عنهما يقول أخذا من هذا الحديث : " إذا أصبحت فلا تنتظر المساء " : فإنك قد تموت قبل أن تمسي، " وإذا أمسيت فلا تنتظر الصّباح " : فإنك قد تموت قبل أن تصبح، ولكن انتهز الفرصة لا تؤخّر العمل، لا تركن إلى الدنيا فتؤمّل البقاء، مع أنّك لا تدري ، " وخذ من صحّتك لمرضك، ومن حياتك لموتك " : انتهز الصّحّة، انتهز الحياة، فإنك قد تمرض فتعجز، وقد تفتقر فتعجز، وقد تموت فينقطع عملك.
ثم ذكر أحاديث في هذا المعنى، منها : ( أن النبي صلى الله عليه وآله وسلّم مات ولم يترك شيئا مما يأكله ذو كبد رطبة إلاّ شيئا من الشّعير ) ، كما قالت ذلك عائشة أمّ المؤمنين رضي الله عنها، لم يترك إلاّ شيئا مِن الشّعير، ومع ذلك فإنه مات ودرعه مرهونة عند يهوديّ بشعير أخذه لأهله، اضطرّ عليه الصلاة والسلام فأخذ من هذا اليهودي شعيرًا ابتاعه منه ورهنه درعه، فمات وهي مرهونة عنده، عليه الصلاة والسلام، وهذا يدلّ على أنّه عليه الصّلاة والسّلام أزهد الناس في الدّنيا، إذ لو شاء أن تسير معه الجبال ذهباً لسارت، ولكنّه لا يريد هذا، يريد أن يتقلّل من الدّنيا حتى يخرج منها لا عليه ولا له منها، بل : ( كان عليه الصلاة والسلام يُعطي عطاء من لا يخشى الفاقة ) ، ويعيش عيشة الفقراء والله الموفّق.