شرح ما تقدم قراءته من أحاديث الباب . حفظ
الشيخ : بسم الله الرحمن الرحيم :
قال المؤلف -رحمه الله تعالى- : وعن أنس بن مالك رضي الله عنه أن النبي صلى الله عليه وآله وسلم -يرحمك الله-، " وعن أنس رضي الله عنه قال: ( ما سئل النبي صلى الله عليه وسلم شيئًا على الإسلام إلاّ أعطاه ) " : لأنه صلى الله عليه وآله وسلم كان أكرم الناس، وكان يبذل ماله فيما يقرب إلى الله سبحانه وتعالى، ومِن ذلك إذا سأله شخص على الإسلام : يعني على التأليف على الإسلام، والرغبة فيه إلا أعطاه مهما كان، حتى إنه سأله أعرابي فأعطاه غنمًا بين جبلين، بين جبلين: معناه أنها غنم كثيرة، لكنّ الرسول عليه الصلاة والسلام أعطاه لما يرجو من الخير لهذا الرجل ولمن وراءه، ولذلك ذهب هذا الرجل إلى قومه فقال: " يا قوم أسلموا فإن محمّدًا يعطي عطاء من لا يخشى الفقر عليه الصلاة والسلام " : يعني يعطي عطاء جزيلا، عطاء من لا يخشى الفقر، فانظر إلى هذا العطاء كيف أثّر في هذا الرّجل هذا التأثير العظيم حتّى أصبح داعية إلى الإسلام، وهو عندما سأل طمعًا كغيره من الأعراب، الأعراب أهل طمع يحبّون المال ويسألونه، ولكنه لما أعطاه الرسول صلى الله عليه وسلم هذا العطاء صار داعية إلى الإسلام، قال: أسلموا، وما قال أسلموا تدخلوا الجنّة وتنجو من النار ، " أسلموا فإن محمّدا يعطي عطاء من لا يخشى الفقر " : يعني سيعطيكم ويكثّر، ولكنهم إذا أسلموا من أجل المال فإنهم لا يلبثون يسيرا إلاّ صار الإسلام أحبّ شيء إليهم، أحبّ من الدّنيا وما فيها، ولهذا كان الرّسول عليه الصّلاة والسّلام يعطي الرّجل تأليفا له على الإسلام، يعطيه حتى يسلم للمال، لكنه ما يلبث إلاّ يسيرا حتى يكون الإسلام أحبّ إليه من الدنيا وما فيها.
ويؤخذ من هذا الحديث وأمثاله: أنه لا ينبغي لنا أن نبتعد عن أهل الكفر وعن أهل الفسوق، وأن ندعهم والشّياطين تلعب بهم، بل نؤلّفهم، نجذبهم إلينا بالمال واللين وحسن الخلق حتى يألفوا الإسلام، فها هو الرسول عليه الصلاة والسلام يعطي الكفّار، يعطيهم حتّى من الفيء، بل إن الله جعل لهم حظّا من الزكاة، نعطيهم ليؤلّفهم على الإسلام حتى يدخلوا في دين الله، والإنسان قد يُسلم للدنيا، ولكن إذا ذاق طعم الإسلام رغب فيه فصار أحب شيء إليه، قال بعض أهل العلم : " طلبنا العلم لغير الله فأبى أن يكون إلاّ لله " ، الأعمال الصّالحة لابدّ أن تربّي صاحبها على الإخلاص لله عزّ وجلّ، والمتابعة للرسول عليه الصّلاة والسّلام.
وإذا كان هذا دأب الإسلام فيمن يُعطى على الإسلام ويؤلف، فإنه ينبغي لنا أن ننظر إلى هذا نظرة جدية ، فنعطي من كان كافرا إذا وجدنا منه قربا من الإسلام ، ونهاديه ونحسن له الخلق، فإذا اهتدى، ( فلَإن يهدي الله بك رجلا واحدا خير لك من حمر النعم )، وهكذا أيضا الفسّاق هادهم انصحهم باللّين، بالتي هي أحسن، لا تقل: أنا أبغضهم لله، أبغضهم لله وادعهم إلى الله، بغضك إياهم لله لا يمنع أن تدعوهم إلى الله، ادعهم إلى الله عزّ وجلّ وإن كنت تكرههم فلعلّهم يوما من الأيام يكونون مِن أحبابك في الله.
ثم ذكر المؤلف في الحديث الآخر أن الرسول عليه الصّلاة والسلام قال: ( ما نقصت صدقة من مالٍ ) : يعني أن الإنسان إذا تصدّق فإن الشّيطان يقول له: أنت إذا تصدّقت نقص مالك، عندك مائة ريال، إذا تصدّقت بعشرة لم يكن عندك إلاّ كم؟
الطالب : تسعين.
الشيخ : تسعون، ما يكون عندك إلاّ تسعون ريالا، إذن نقص المال، لا تتصدّق، كلما تصدّقت ينقص مالك، ولكن من لا ينطق عن الهوى يقول: أن الصّدقة لا تنقص المال، ما تنقصه ليه؟ قد تنقصه كمّا لكنها تزيده كيفا وبركة، وربّما هذه العشرة يأتي بدلها مائة، (( وما أنفقتم من شيء فهو يخلفه )) أي : يجعل لكم خلفا عنه عاجلا وأجرًا وثوابا آجلا : (( مثل الذين ينفقون أموالهم في سبيل الله كمثل حبّة أنبتت سبع سنابل في كلّ سنبلة مائة حبّة )) ، والمسلمون اليوم مقبلون على شهر رمضان ، وشهر رمضان مقبل عليهم ، وهو شهر الجود والكرم، ( كان النبي صلى الله عليه وآله وسلم أكرم الناس، وكان أجود الناس، وكان أجود ما يكون في رمضان حين يلقاه جبريل فيدارسه القرآن ، فلرسول الله صلى الله عليه وسلم أجود بالخير من الريح المرسلة ) : الريح المرسلة التي أمرها الله وأرسلها فهي عاصفة سريعة، فالرسول عليه الصّلاة والسلام أسرع بالخير في رمضان من الريح المرسلة، فينبغي لنا في هذا الشّهر المبارك أن نكثر من الصّدقة والإحسان، إن كانت زكاة فزكاة، وإن كانت تبرعا فتبرّع ، لأنه شهر الخير والبركة والإنفاق ، ( ما نقصت صدقة من مال ) : يجري على ألسن العامة : " بل تزيده بل تزيده "، وهذه لا صحّة لها، ولم تصحّ عن الرسول عليه الصّلاة والسّلام، والذي صحّ عنه : ( ما نقصت صدقة من مال ) : فالزيادة التي تحصل بدل الصّدقة إما كمّية وإما كيفيّة، الكمية : أن الله تعالى يفتح لك بابا من الرزق ما كان بحسابك، والكيفية أن يُنزل الله لك البركة فيما بقي من مالك.
( وما زاد الله عبدا بعفو إلاّ عزّا ) : إذا جنى عليك أحد وظلمك في مالك أو في بدنك، أو في أهلك أو في حقّ من حقوقك فإن النفس شحيحة، تأبى إلاّ أن تنتقم منه، وأن تأخذ بحقّك وهذا لك: (( فمن اعتدى عليكم فاعتدوا عليه بمثل ما اعتدى عليكم )) ، (( وإن عاقبتم فعاقبوا بمثل ما عوقبتم به )) ، ولا يلام الإنسان على ذلك، لكن إذا همّ بالعفو وحدّث نفسه بالعفو قالت له نفسه الأمّارة بالسوء: إنّ هذا ذُلّ، ذلّ أن تعفو عن شخص جنى عليك واعتدى عليك، فيقول الرسول عليه الصّلاة والسلام: ( ما زاد الله عبدا بعفو إلاّ عزّا ) : العزّ ضدّ الذّلّ، الذي تحدّثك نفسك أنّك إذا عفوت فقد ذللت أمام من اعتدى عليك.
فالله لا يزيدك إلاّ عزّا ورفعة في الدّنيا والآخرة ، ( وما تواضع أحدٌ لله إلاّ رفعه ) : هذا أيضا التواضع التطامن والتهاون، فيظنّ الإنسان أنه إذا تواضع نزل، ولكنَّ الأمر بالعكس ، إذا تواضعت لله فإن الله تعالى يرفعك، وقوله : ( تواضع لله ) : لها معنيان: المعنى الأول: أن تتواضع لله بالعبادة وتخضع لله وتنقاد لأمر الله، والمعنى الثاني: من تتواضع لعباد الله من أجل الله ، وكلاهما سبب للرفعة، سواء تواضعت لله بامتثال أمره واجتناب نهيه وذللت له وعبدته، أو تواضعت لعباد الله من أجل الله ، لا خوفا منهم ولا مداراة له ولا طلبا لمال أو لغيره : إنما تتواضع من أجل الله عزّ وجلّ، فإن الله تعالى يرفعك، متى؟ في الدّنيا أو في الآخرة؟ بل فيهما جميعا يرفعك الله عزّ وجلّ.
فهذه الأحاديث كلّها تدلّ على فضل الصّدقة والتبرّع والإحسان إلى الغير وأن ذلك من خلق النبي صلى الله عليه وآله وسلّم.