شرح ما تقدم قراءته من أحاديث الباب . حفظ
الشيخ : ذكر المؤلف -رحمه الله تعالى- في باب الإيثار، الإيثار عن النفس هذا الحديث العظيم العجيب، الذي يبيّن حال رسول الله صلى الله عليه وآله وسلّم وأصحابه، ( حيث جاءه رجل فقال يا رسول الله إني مجهود ) : يعني مجهد من الفقر والجوع وهو ضيف على رسول الله صلى الله عليه وآله وسلّم ، فأرسل النبي صلى الله عليه وآله وسلم إلى زوجاته واحدة تلو الأخرى يسألها هل عندها شيء؟ فكل واحدة تقول : ( لا والذي بعثك بالحقّ ما عندي إلاّ الماء ) : تسعة أبيات للرسول عليه الصّلاة والسّلام ليس فيها إلاّ الماء، مع أنّ النبيّ صلى الله عليه وآله وسلّم لو شاء أن يسيّر الله الجبال معه ذهبا لسارت، لكنّه عليه الصّلاة والسّلام أزهد الناس في الدّنيا، كلّ بيوته التّسعة ليس فيها شيء إلاّ الماء، فقال النبي عليه الصّلاة والسّلام: ( مَن يضيف ضيف رسول الله صلى الله عليه وسلّم؟ فقال رجل من الأنصار: أنا يا رسول الله ) : أنا أضيفه، فذهب بالرجل إلى رحله وقال لامرأته: هل عندك شيء؟ قالت: لا إلاّ طعام صبيتي : يعني ليس عندها في البيت إلاّ العشاء لهم تلك الليلة فقط، فقال : ( أكرمي ضيف رسول الله صلى الله عليه وسلّم ، وأمرها أن تشغل أولادها وتلهيهم حتّى إذا جاء وقت الطعام نوّمتهم وأطفأت المصباح وأرت الضّيف أنهم يأكلون معه ففعلت ) ، نوّمت الصّبيان، هدّأتهم ونوّمتهم ، فناموا على غير عشاء ، ثمّ إن العشاء لمّا قُدّم أطفأت المصباح وأرت الضّيف أنها تأكل هي وزوجها معه وهما لا يأكلان، ( فشبع الضّيف وباتا طاويين ) : يعني غير متعشّيين إكراماً لضيف الرسول صلى الله عليه وآله وسلّم، ثمّ إنه أصبح فغدا إلى رسول الله صلى الله عليه وآله وسلّم فأخبره الرسول عليه الصّلاة والسّلام : ( أن الله قد عجب من صنيعهما تلك الليلة )، عجِب عجَب استحسان عزّ وجلّ من صنيعهما تلك الليلة لما يشتمل عليه من الفوائد العظيمة.
ففي هذا الحديث أولا: بيان حال رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم وما هو عليه من شظف العيش وقلّة ذات اليد، مع أنه عليه الصلاة والسلام أكرم الخلق على الله، ولو كانت الدّنيا تساوي عند الله شيئا لكان أبرَّ الناس بها رسول الله صلى الله عليه وسلم، ولكنها لا تساوي، قال ابن القيم رحمه الله :
" لو ساوت الدّنيا جناح بعوضة *** لم يسق منها الرب ذا الكفران
لكنّها والله أحقرُ عنده *** من ذا الجناح القاصر الطيران "
:
أحقر من جناح البعوضة عند الله، وليست بشيء.
ومنها : حُسن أدب الصّحابة مع النبي صلى الله عليه وسلم، فإن هذا الأنصاري رضي الله عنه قال لزوجته: أكرمي ضيف رسول الله، ولم يقل: أكرمي ضيفنا، مع أن الذي أضافه في الحقيقة هذا الرجل لكنّه أضافه قائما بوظيفة الرسول عليه الصّلاة والسّلام فجعله ضيفا لرسول الله صلى الله عليه وسلّم.
ومنها : أنه يجوز عرض الضّيافة على الناس، ولا يعدّ هذا من المسألة المذمومة أوّلًا: لأنه ما عيّن، ما قال يا فلان ضيّف هذا الرجل حتى نقول إنه أحرجه وإنما هو على سبيل العموم، فيجوز مثلا للإنسان إذا نزل به ضيف وكان مشغولا أو ليس عنده ما يضيفه به أن يقول لمن حوله: مَن يضيّف هذا الرّجل ولا حرج في ذلك.
ومنها ، من الفوائد: الإيثار العظيم لهذا الرجل الأنصاري حيث بات هو وزوجته وصبيته من غير عشاء إكراما لهذا الضّيف الذي نزل ضيفًا على رسول الله صلى الله عليه وآله وسلّم.
ومنها ، من فوائد هذا الحديث: أنه ينبغي للإنسان أن لا يري الضّيف أنه مانّ عليه، أو أنّ الضّيف مضيّق عليه أو محرج له، لأن الرجل أمر بإطفاء المصباح حتى لا يظنّ الضّيف أنه ضيّق عليهم وحرمهم العشاء، وهذا مأخوذ من أدب الخليل إبراهيم عليه الصّلاة والسّلام، حينما نزلت به الملائكة ضيوفا (( فراغ إلى أهله فجاء بعجل سمين )) : حنيذ مشوي، لكنّه راغ إلى أهله أي ذهب بسرعة وخُفية لئلاّ يخجّل الضّيف.
ومن فوائد هذا الحديث أيضا : أنه يجوز للإنسان أن ينزل الضّيف ونحوه على عائلته وهذا في الأحوال النادرة العارضة، وإلاّ فقد قال النبيّ صلى الله عليه وآله وسلّم : ( ابدأ بنفسك ثم بمن تعول ) ، ولكن إذا عرضت مثل هذه الأحوال فلا حرج على الإنسان أن يقدّم الضّيف أو نحوه ممن يجب عليه إكرامه، ومن تأمّل سنّة الرسول عليه الصّلاة والسّلام وهديه وهدي أصحابه وجد فيها من مكارم الأخلاق ومعالي الآداب ما لو سار الناس عليه لنالوا بذلك رفعة الدّنيا والآخرة، وفّقنا الله وإياكم لما فيه الخير في الدّنيا والآخرة.