شرح قول الإمام النووي رحمه الله تعالى فيما نقله : " ... باب الورع وترك الشبهات قال الله تعالى: (( وتحسبونه هينا وهو عند الله عظيم )) وقال تعالى: (( إن ربك لبالمرصاد )) ... " . حفظ
القارئ : قال -رحمه الله تعالى- : " باب الورع وترك الشبهات :
قال الله تعالى: (( وتحسبونه هيناً وهو عند الله عظيم )).
وقال تعالى: (( إن ربك لبالمرصاد )).
وعن النعمان بن بشير رضي الله عنهما قال: سمعتُ رسول الله صلى الله عليه وسلم يقول: ( إنَّ الحلال بين وإن الحرام بين، وبينهما مشتَبِهات لا يعلمهن كثير من الناس، فمن اتقى الشبهات، استبرأ لدينه وعرضه، ومن وقع الشبهات، وقع في الحرام، كالراعي يرعى حول الحِمى يوشك أن يرتع فيه، ألا وإن لكل ملك حمى ألا وإن حمى الله محارمه، ألا وإن في الجسد مضغة إذا صلحت صلح الجسد كله، وإذا فسدت فسد الجسد كله: ألا وهي القلب ) متفق عليه "
.
الشيخ : بسم الله الرحمن الرحيم :
قال المؤلف النّووي -رحمه الل في كتاب *رياض الصّالحين : " باب الورع وترك المشتبهات " : الورع والزّهد يشتبه معناهما عند بعض الناس، ولكن الفرق بينهما كما قال ابن القيم -رحمه الله- في كتاب *الروح : " الورع ترك ما يضرّ في الآخرة والزهد ترك ما لا ينفع " : فمقام الزهد أعلى من مقام الورع ، لأن الورع أن يترك الإنسان ما يضرّ ، والزّهد أن يترك ما لا ينفع.
لأن الأشياء ثلاثة أقسام: ضار ونافع ، ولا ضارّ ولا نافع، يعني منها ضارّ ومنها نافع ومنها ما ليس بضارّ ولا نافع ، فالزاهد يترك شيئين من هذا : يترك الضّار ويترك ما ليس بنافع ولا ضارّ ، ويفعل ما هو نافع.
والورع يترك شيئا واحدا منها وهو ما كان ضارّا ، ويفعل النافع ، ويفعل الشّيء الذي ليس فيه نفع ولا ضرر ، وبهذا صارت منزلة الزاهد أرفع من منزلة الورعِ ، وربّما يطلق أحدهما على الآخر .
فالورع ترك ما يضرّ ومن ذلك ترك الأشياء المشتبهة، المشتبهة في حكمها والمشتبهة في حقيقتها:
فالأول اشتباه في الحكم. والثاني اشتباه في الحال .
فالإنسان الورع هو الذي إذا اشتبه الأمر عليه تركه، تركه إذا كان اشتباها في تحريمه، وفعله إن كان اشتباها في وجوبه لئلاّ يأثم بالترك.
ثمّ إن المؤلف رحمه الله ذكر آيتين على هذا الباب، قال رحمه الله الآية الأولى: (( وتحسبونه هيّناً وهو عند الله عظيم )) : تحسبونه : الضّمير يعود على ما تلقَّاه الناس من الحديث الإفك الكذب في حقّ أم المؤمنين عائشة رضي الله عنها، وذلك أن عائشة أم المؤمنين رضي الله عنها كانت زوج النبي صلى الله عليه وسلم، وكان المنافقون يتربّصون بالنّبيّ صلى الله عليه وسلم أن يشوّهوا سمعته ويدنّسوا عرضه، فحصلت غَزوة من الغزوات، فلما قفل النبي صلى الله عليه وسلّم راجعاً منها نام في أثناء الطريق، وكانت نساءُ النبي صلى الله عليه وسلّم لهنّ رجال يساعدون في ترحيلهنّ، فلما كان في آخر الليل ذهبت عائشة رضي الله عنها لقضاء حاجتها، فجاء الذين يحملون الهودج الذي ترَكب فيه فحملوه على البعير وشدّوه على البعير، وظنّوا أنها كانت فيه، لأنها كانت في ذلك الوقت صغيرة السّنّ خفيفة الوزن، ثمّ سار الرّكب، رجعت عائشة رضي الله عنها إلى المكان فوجدت الناس قد رحلوا، فكان من ذكائها وثبات جأشها وطمأنينتها أن بقيت في المكان، ما ذهبت تتجوّل يمينا وشمالا، لأنها لو ذهبت ربّما ضاعت وضيّعوها، لكنّها بقيت في مكانها، وكان رجل من خيار الصّحابة يقال له صفوان بن المعطّل نائما، وكان من قوم إذا ناموا لم يستيقظوا إلاّ إذا شبعوا من النوم، لو توقظهم مهما كان ما استيقظوا، فاستيقظ رضي الله عنه فوجد الناس قد رحلوا ورأى هذا الشّبح، هذا السواد، فأقبل إليه فإذا هي عائشة أم المؤمنين رضي الله عنها، وكان يعرفها قبل أن ينزل الحجاب فماذا صنع هذا الرجل؟ هذا الرجل أناخ البعير، ولم يتكلّم بأي كلمة احترامًا لفراش رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم، لا يريد أن يتكلّم مع زوجته في مثل هذا المكان ، أناخ البعير ووضع رجله على ساق البعير وعضد البعير فركبت عائشة ، فأخذ الزّمام وجعل يقود البعير، ليجعل عائشة خلفه فلما أقبل على القوم تكلم المنافقون، ورأوا أن هذه فرصة، وقالوا ما هم فيه كاذبون، قالوا في عائشة ما هم فيه كاذبون، امرأة في سفر مع رجل تتأخر عن القوم فصاروا يتكلمون في عرض عائشة، وهم لا يريدون عرض عائشة، لا تهمّهم فتاة عند زوجها، الذي يهمّهم تدنيس فراش رسول الله صلى الله عليه وسلم قاتلهم الله أنّى يؤفكون، فجعلوا يتكلّمون، وكان من حكمة الله عزّ وجلّ أن عائشة لما قدموا المدينة مرضت، وبقيت في البيت في بيتها، وكان النبي صلى الله عليه وسلم يدخل عليها، ولم تر منه ما كانت تراه بالأول، كان يمر ويقول: ( كيف تيكم؟ ) يعني كيف هذه؟ ما يسأل ويلح ويقول: كيف هي اليوم عساها أحسن من أمس وما أشبه ذلك، يقول هذه الكلمة لأن كلام المنافقين شاع في المدينة، وصار عند بعض المؤمنين تردّد، والرّسول عليه الصّلاة والسلام كان لا يشكّ في أهله، ويرى أن الله عزّ وجلّ يأبى بحكمته أن يدنّس فراش نبيه صلى الله عليه وآله وسلم، ولم يكن ليصدّق بهذا أبدًا، لكن مع كثرة الكلام وكثرة القرع وكثرة الإرجاف، كان الإنسان بشرًا، وبعد أن مضى نحو شهر خرجت عائشة رضي الله عنها وخالتها أم مسطح بن أثاثة، خرجت تقضي حاجتها وكانوا في الأول ما عندهم مراحيض في البيوت، إذا أراد واحد يقضي حاجته ما عنده مكان يقضي حاجته في البيت، يخرجون على البرّ، ينظرون مكانًا نازلا مطمئنّا يقضون فيه الحاجة، فعثرت، خرجت مع خالتها أم مِسطح فعثرت، فقالت: تعس مسطح تقوله أم مسطح: تعس مسطح، فاستغربت عائشة ، كيف تقول لرجل من المهاجرين شهد بدراً تقول: تعس مسطح؟! فقالت ليش؟ لم تقولين هذا الكلام؟ لأن معنى تعس يعني خسر وهلك فقالت: أما علمت بكذا وكذا وكذا؟ فازدادت عائشة مرضًا إلى مرضها وصارت تبكي ليلا ونهارا، لا يرقؤ لها دمع ولا تهنؤ بعيش، وبينما الأمر كذلك حتى انتهى نفاق المنافقين إلى الرأس، أنزل الله فيها هذه الآيات الكريمة (( إن الذين جاؤوا بالإفك عصبة منكم )) يعني: طائفة منكم، (( لا تحسبوه شرّا لكم بل هو خير لكم )) : سبحان الله! هذا الإفك والرمي بالفاحشة لا نحسبه شراً؟ نعم لا نحسبه شرّا، (( بل هو خير لكم )) : لأنه حصل به من تمحيص الذّنوب ورفعة المقامات، والدفاع عن عرض الرسول عليه الصّلاة والسلام وفراشه ما هو خير، (( لكل امرئ منهم ما اكتسب من الإثم )) : كل واحد تكلّم في هذا الأمر له ما اكتسب من الإثم (( والذي تولى كبره منهم له عذاب عظيم )) : أعظمهم الذي قاد هذه الفتنة هو أعظمهم والعياذ بالله ، ثمّ ساق الله الآيات إلى قوله: (( إذ تلقونه بألسنتكم وتقولون بأفواهكم ما ليس لكم به علم وتحسبونه هيّناً وهو عند الله عظيم )) : وكان الورع والتّقى أن لا تتكلّموا في هذا الأمر، من أين مصدره؟ مِن المنافقين الذين هم أكذب عباد الله، المنافقون أكذب الناس، ولهذا من علامات النفاق الكذب، استمعوا إلى قول الله عزّ وجلّ : (( إذا جاءك المنافقون قالوا نشهد إنّك لرسول الله )) شهادة مؤكّدة بإنّ واللام، قال الله عزّ وجلّ : (( والله يعلم إنّك لرسوله )) حقّ إنّك رسوله، (( والله يشهد إن المنافقين لكاذبون )) : شهادة بشهادة أيهما أعظم ؟ قولهم : نشهد إنك لرسول الله، أو قول الله: والله يشهد إنهم لكاذبون؟ لا شكّ قول الله، فهو يشهد عزّ وجلّ إن المنافقين لكاذبون في قولهم: نشهد إنك لرسول الله، هذا الخبر أو هذه الفاحشة التي أشيعت مصدرها من المنافقين، وعلى رأسهم عبد الله بن أُبي بن سلول، لكنّه الخبيث لا يتكلّم صراحة، يأتي للناس فيقول: ما سمعتم ما قيل في عائشة؟ قيل كذا وكذا، فيه أناس من المؤمنين تكلّموا بهذا صراحة : منهم مسطح بن أثاثة، وحسّان بن ثابت رضي الله عنه، وحمنة بنت جحش، تكلّموا، لأنهم بشر، أقسم أبو بكر رضي الله عنه أن لا ينفق على مسطح بن أثاثة، مِسطح بن أثاثة ما هو؟ ابن خالته لكنّه أقسم أن لا ينفق عليه، لأنه قال في ابنته، بل قال في رسول الله صلى الله عليه وسلم ما لا يليق، فماذا قال الله عزّ وجلّ؟ قال: (( ولا يأتل أولوا الفضل منكم والسَّعة أن يؤتوا أولي القربى والمساكين والمهاجرين في سبيل الله )) : لا يأتل : يعني لا يحلف، والمراد بهذا من؟ أبو بكر، (( لا يأتل أولي الفضل منكم والسّعة أن يؤتوا أولي القربى والمساكين والمهاجرين في سبيل الله ))، من يعني بأولي القربى والمساكين والمهاجرين؟ مسطح، (( ألا تحبون أن يغفر الله لكم والله غفور رحيم )) : لما نزلت هذه الآية قال أبو بكر: ( بلى والله نحب أن يغفر الله لنا ) : فردّ النّفقة على مسطح، هذا الإمتثال العظيم، وإلاّ رجل يقول في ابنته ما يقول، بل في رسول الله ما يقول، فأمر النبي صلى الله عليه وسلم بجلد مسطح وحسان وحمنة كل واحد ثمانين جلدة، حدّ القذف.