شرح قول الإمام النووي رحمه الله تعالى فيما نقله : " ... وعن أبي هريرة رضي الله عنه قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: ( ثلاثة لا يكلمهم الله يوم القيامة ولا يزكيهم ولا ينظر إليهم ولهذا عذاب أليم: شيخ زان وملك كذاب وعائل مستكبر ) . رواه مسلم . وعنه قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: ( قال الله عز وجل العز إزاري والكبرياء ردائي، فمن ينازعني في واحد منهما فقد عذبته ) رواه مسلم . وعنه أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال: ( بينما رجل يمشي في حلة تعجبه نفسه، مرجل رأسه يختال في مشيته إذ خسف الله به فهو يتجلجل في الأرض إلى يوم القيامة ) متفق عليه ... " . حفظ
القارئ : " وعنه رضي الله عنه قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: ( قال الله عز وجل: العز إزاري والكبرياء ردائي، فمن ينازعني في واحد منهما فقد عذبته ) رواه مسلم.
وعنه رضي الله عنه، أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال: ( بينما رجل يمشي في حُلة تعجبه نفسه مرجل رأسه يختال في مشيته، إذ خسف الله به فهو يتجلجل في الأرض إلى يوم القيامة ) متفق عليه "
.
الشيخ : بسم الله الرحمن الرحيم :
هذه الأحاديث ساقها النووي رحمه الله في كتاب *رياض الصّالحين في: " باب: تحريم الكبر والإعجاب " : عن أبي هريرة رضي الله عنه أن النبي صلى الله عليه وسلّم قال: ( ثلاثة لا يكلمهم الله يوم القيامة ولا يزكيهم ولا ينظر إليهم ) : ثلاثة يعني ثلاثة أصناف، وليس المراد ثلاثة رجال، بل قد يكون ألاف من الناس، لكن المراد ثلاثة أصناف وهكذا كلّما جاءت كلمة ثلاثة أو سبعة أو ما أشبه ذلك، فالمراد أصناف، هؤلاء الثلاثة لا يكلّمهم الله يوم القيامة، ولا ينظر إليهم، ولا يزكيهم، ولهم عذاب أليم:
الأول: شيخ زانٍ، شيخ يعني كبير، زاني يعني أنه زنى، فهذا لا يكلّمه الله يوم القيامة ولا ينظر إليه ولا يزكّيه وله عذاب أليم، وذلك لأنّ الشّيخ إذا زنى فليس هناك شهوة تجبره على أن يفعل هذا الفعل، الشاب قد يكون عنده شهوة ويعجز أن يملك نفسه، لكن الشيخ قد بردت شهوته وزالت أو نقصت كثيرا فكيف يزني؟ هذا يدل على أنّه والعياذ بالله سيّئ للغاية، لأنه فعل الفاحشة من غير سبب قويّ يدفعه إليها، والزّنا كلّه فاحشة سواء من الشّاب أو من الشّيخ لكنّه من الشّيخ أشدّ وأعظم والعياذ بالله، إلاّ أن هذا الحديث مقيّد بما ثبت في الصّحيحين : ( أن من أتى شيئا من هذه القاذورات وأقيم عليه الحدّ في الدّنيا فإن الله تعالى لا يجمع عليه عقوبتين، بل يزول عنه ذلك ) : يكون الحدّ تطهيرا له.
الثاني: ( ملك كذّاب )، وكذّاب هذه صيغة مبالغة أي: كثير الكذب، وذلك لأنّ الملك لا يحتاج إلى أن يكذب كلمته العليا بين الناس فلا حاجة إلى أن يكذب، وإذا كذب صار يعد الناس ولكن لا يوفي، يقول : سأفعل كذا ولكن لا يفعل، سأترك كذا ولكن لا يترك، ويحدّث الناس يلعب بعقولهم يكذّب عليهم ، فهذا والعياذ بالله داخل في هذا الوعيد: ( لا يكلّمه الله يوم القيامة ولا ينظر إليه ولا يزكيه وله عذاب أليم )، والكذب حرام من الملك وغير الملك ولكنّه من الملك أعظم وأشدّ، لأنه لا حاجة إلى أن يكذب، كلمته بين الناس هي العليا، فيجب عليه أن يكون صريحاً إذا كان يريد الشيء يقول: نعم ويفعل، وإذا كان لا يريده يقول: لا ولا يفعل، الواحد من الرّعيّة قد يحتاج إلى الكذب فيكذب، ولكنّ الملك لا يحتاج، والكذب حرام ومن صفات المنافقين والعياذ بالله، فإن المنافق : ( إذا حدّث كذب ) ولا يجوز لأحد أن يكذب مطلقا، وقول بعض العامّة : أن الكذب إذا كان لا يقطع حلاّ من حلاله فلا بأس به هذه قاعدة شيطانية ليس لها أساس من الصّحّة ولا من الدّين، الكذب حرام في كلّ حال.
الثالث: ( عائل مستكبر ) : وهذا هو الشّاهد من الحديث، عائل يعني فقيرا مستكبر يعني يتكبّر على الناس والعياذ بالله، فإن هذا العائل الفقير ليس عنده ما يوجب الكبر، الغنيّ ربما يكون غنيّا ويخدعه غناه ويغرّه غناه ويتكبّر على عباد الله، أو يتكبّر عن الحقّ، لكن الفقير : " حَشَف وسوء كِيلة "، ما دام أنك فقير كيف تستكبر ؟! ( فالعائل المسكتبر هذا لا يكلمه الله يوم القيامة ولا ينظر إليه ولا يزكّيه وله عذاب أليم )، والكبر حرام من الغني ومن الفقير ولكنّه من الفقير أشد، ولهذا تجد الناس إذا رأوا غنيّا متواضعًا استغربوا ذلك منه ، واستعظموا ذلك منه ، ورأوا أن هذا الغني في غاية ما يكون من الخلق النّبيل، لكن لو يجدون فقيرا متواضعا لكان من سائر الناس، لأن الفقر يوجب على الإنسان أن يتواضع، لأيّ شيء يستكبر، فإذا جاء إنسان والعياذ بالله عائل فقير يستكبر على الخلق، أو يستكبر عن الحقّ، فليس هناك ما يوجب الكبرياءَ في حقّه، فيكون والعياذ بالله داخلا في هذا الحديث.
ثمّ ذكر المؤلف رحمه الله حديث أبي هريرة الآخر : بينما رجل يختال في مشيته، معجب بنفسه، مرجّل رأسه عنده من الخيلاء والكبرياء والغطرسة ما عنده : ( إذ خسف الله به الأرض، خسف به الأرض فهو يتجلجل فيها إلى يوم القيامة ) : يعني انهارت به الأرض وانغمس فيها، اندفن فيها فهو يتجلجل فيها إلى يوم القيامة ، لأنه والعياذ بالله صار عنده هذا الكبرياء وهذا التيه وهذا الإعجاب فخسف به، وهذا نظير قارون الذي ذكره المؤلف رحمه الله في صدر الباب، فإنّ قارون خرج على قومه في زينته : (( قال الذين يريدون الحياة الدّنيا يا ليت لنا مثل ما أوتي قارون إنه لذو حظّ عظيم * وقال الذين أوتوا العلم ويلكم ثواب الله خير لكم إن كنتم مؤمنين * فخسفنا به وبداره الأرض فما كان له من فئة ينصرونه من دون الله وما كان من المنتصرين ))، وقوله : ( يتجلجل فيها ) : يحتمل أنه يتجلجل وهو حيّ حياة دنيويّة ، فيبقى هكذا معذّبًا إلى يوم القيامة ، معذّب وهو في جوف الأرض وهو حيّ فيتعذّب كما يتعذّب الأحياء ، ويحتمل أنه لما اندفن مات كما هي سنّة الله عزّ وجلّ، مات ولكن مع ذلك يتجلجل في الأرض وهو ميّت، يكون تجلجله هذا تجلجلا برزخيّاً لا تعلم كيفيّته ، والله أعلم ، المهمّ أن هذا جزاؤه والعياذ بالله، وفي هذا وما قبله وما يأتي بعده ، دليل على تحريم الكِبر وتحريم الإعجاب وأن الإنسان يجب عليه أن يعرف قدر نفسه وينزّلها منزلتها، والله الموفّق.