شرح قول الإمام النووي رحمه الله تعالى فيما نقله : " ... باب الغضب إذا انتهكت حرمات الشرع والانتصار لدين الله تعالى . قال الله تعالى: (( ومن يعظم حرمات الله فهو خير له عند ربه )) وقال تعالى: (( إن تنصروا الله ينصركم ويثبت أقدامكم )) وفي الباب حديث عائشة السابق في باب العفو . وعن أبي مسعود عقبة بن عمرو البدري رضي الله عنه قال: جاء رجل إلى النبي صلى الله عليه وسلم فقال: إني لأتأخر عن صلاة الصبح من أجل فلان مما يطيل بنا فما رأيت النبي صلى الله عليه وسلم غضب في موعظة قط أشد مما غضب يومئذ فقال: ( يا أيها الناس إن منكم منفرين فأيكم أم الناس فليوجز فإن من ورائه الكبير والصغير وذا الحاجة ) متفق عليه ... " . حفظ
القارئ : بسم الله الرحمن الرحيم .
الحمد لله ربّ العالمين، والصّلاة والسّلام على نبيّنا محمّد وعلى آله وصحبه أجمعين :
قال -رحمه الله تعالى- : " باب الغضب إذا انتهكت حرمات الشرع والانتصار لدين الله تعالى :
قال الله تعالى: (( ومن يعظِّم حُرمات الله فهو خير له عند ربه )).
وقال تعالى: (( إن تنصروا الله ينصركم ويثبت أقدامكم )) .
وفي الباب أحاديثُ منها : عن عقبة بن عمرو البدري رضي الله عنه، قال:
( جاء رجل إلى النبي صلى الله عليه وسلم فقال: إني لأتأخر عن صلاة الصبح من أجل فلان مما يطيل بنا، فما رأيت النبي صلى الله عليه وسلم غضب في موعظة قط أشد مما غضب يومئذ، فقال: يا أيها الناس إن منكم منفرين، فأيكم أمَّ الناس فليوجز، فإن من ورائه الكبير والصغير وذا الحاجة ) متفق عليه "
.
الشيخ : بسم الله الرحمن الرحيم:
قال الحافظ النّووي رحمه الله في كتابه *رياض الصّالحين : في باب الغضب إذا انتهكت شعائر الله عزّ وجلّ، حرمات الشّرع :
والغضب له عدّة أسباب منها : أن ينتصر الإنسان لنفسه، يفعل أحد معه ما يغضبه فيغضب لينتصر لنفسه، وهذا منهيّ عنه، هذا الغضب منهيّ عنه، لأن رجلا سأل النّبيّ صلى الله عليه وآله وسلم قال له : ( أوصني ، قال: لا تغضب ، فردد مرارا يقول: أوصني، وهو يقول: لا تغضب ).
والثاني من أسباب الغضب : الغضب لله عزّ وجلّ ، بأن يرى الإنسان شخصًا ينتهك حرمات الله فيغضب غيرة لدين الله وحميّة لدين الله، فإن هذا محمود ويثاب الإنسان عليه، لأن الرّسول صلى الله عليه وسلم كان هذا من شأنه ومن سنّته، ولأنه داخل في قوله تعالى: (( ومن يعظّم حرمات الله فهو خير له عند ربّه ))، (( ومن يعظّم شعائر الله فإنها من تقوى القلوب )) : فتعظيم شعائر الله وتعظيم حرمات الله أن يجدها الإنسان عظيمة، وأن يجد امتهانها عظيمًا فيغضب ويثأر لذلك حتى يَفعل ما أُمر به من الأمر بالمعروف والنّهي عن المنكر وغير ذلك.
ثمّ ذكر المؤلف آية ثانية وهي قوله تعالى : (( يا أيها الذين آمنوا إن تنصروا الله ينصركم ويثبّت أقدامكم )) : والمراد بنصر الله نصر دينه ، فإن الله سبحانه وتعالى بنفسه لا يحتاج إلى نصر ، هو غنيّ عمّن سواه ، لكن النّصر هنا نصر دين الله بحماية الدّين ، والذّبّ عنه ، والغيظ عند انتهاكه ، وغير ذلك من أسباب نصر الشّريعة ، ومن هذا الجهاد في سبيل الله، القتال لتكون كلمة الله هي العليا هذا من نصر الله، وقد وعد الله سبحانه وتعالى من ينصره بهذين الأمرين : (( ينصركم ويثبّت أقدامكم ))، ينصركم على من عاداكم ويثبّت أقدامكم على دينه حتى لا تزلّوا، فتأمّل الآن إذا نصرنا الله مرّة أثابنا مرّتين : (( ينصركم ويثبّت أقدامكم )) ، ثم قال بعدها : (( والذين كفروا فتَعساً لهم وأضلّ أعمالهم )) : يعني أن الكافرين أمام المؤمنين الذين ينصرون الله لهم التّعس : وهو الخسران والذّل والهوان ، (( وأضلّ أعمالهم )) : يعني يكون تدبيرهم تدميرا عليهم ، تكون أعمالهم ضالّة لا تنفعهم ولا ينتفعون بها .
ثمّ ذكر حديث عقبة بن عمرو البدري رضي الله عنه : ( أن رجلا جاء إلى النبي عليه الصّلاة والسّلام وقال : إني لأتأخّر عن صلاة الصّبح -الفجر- من أجل فلان مما يطيل بنا ) : وكان هذا الإمام يطيل بهم إطالة أكثر من السّنّة ، فغضب النّبيّ عليه الصّلاة والسّلام ، يقول: ( فما رأيته غضب في موعظة قطّ اشدّ مما غضب يومئذ ، وقال : أيها الناس إن منكم منفّرين فأيكم أمّ الناس فليوجز ) : منفّرين يعني ينفّرون الناس عن دين الله، وهذا الرجل لم يقل للناس لا تصلوا صلاة الفجر لكنه نفّرهم بفعله بالتّطويل الذي هو خارج عن السّنّة فنفر الناس، وفي هذا إشارة أن كلّ شيء ينفّر الناس عن دينهم ولو لم يتكلّم الإنسان بالتنفير فإنه يدخل في التنفير عن دين الله ، ولهذا كان الرسول عليه الصّلاة والسّلام يداري في الأمور الشّرعية ، فيترك ما هو حسن لدرء ما هو أشدّ منه فتنة وضرراً ، فإنه صلى الله عليه وآله وسلّم همّ أن يبني الكعبة على قواعد إبراهيم ، ولكن خاف من الفتنة فترك ذلك ، وكان يصوم في السّفر ، فإذا رأى أصحابه صائمين وقد شقّ عليهم الصّوم أفطر ليسهّل عليهم ، فكون الإنسان يحرص على أن يَقبل الناس دين الله بطمأنينة ورضا وإقبال بدون محذور شرعي فإن هذا هو الذي كان من هدي الرسول عليه الصّلاة والسّلام، والشاهد من هذا الحديث غضب النبي صلى الله عليه وسلم من هذا الفعل الذي فعله هذا الإمام.
وفيه أيضا إشارة إلى أن النبي صلى الله عليه وآله وسلّم كان يغضب عند الموعظة لانتهاك حرمات الله ، وقد قال جابر رضي الله عنه: ( كان النبي صلى الله عليه وسلم إذا خطب يوم الجمعة احمرّت عيناه ، وعلا صوته ، واشتدّ غضبه ، حتى كأنه منذر جيش يقول : صبّحكم ومسّاكم ) .
ثم قال عليه الصّلاة والسّلام: ( أيّكم أمّ الناس فليوجز ) : يعني فليخفف الصّلاة على حسب ما جاءت به السّنّة ، ( فإن من ورائه الكبير والصغير وذا الحاجة ) : في المأمونين ضعيف، ضعيف البنية، ضعيف القوّة، فيهم مريض، فيهم ذو حاجة، قد وعد أحدًا يذهب إليه، أو ينتظر أحدًا أو ما أشبه ذلك فلا يجوز للإمام أن يثقّل بالنّاس أكثر مما جاءت به السّنّة.
وأما صلاته بالناس بحسب ما جاءت به السّنّة فليفعل غضب من غضب ورضي من رضي، والذي لا ترضيه السّنّة، فلا أرضاه الله، السّنّة تتبّع ولكن ما زاد عليها فلا، والأئمة في هذه الحال أو في هذه المسألة ينقسمون إلى ثلاثة أقسام :
قسم مفرّط ، يسرع سرعة تمنع المأمومين فعلَ ما يسنّ وهذا مخطئ وآثم ولم يؤدّ الأمانة التي عليه.
وقسم مُفْرِط أي : زائد يثقّل بالناس وكأنه يصلي لنفسه ، فتجده يثقّل القراءة والرّكوع والسّجود والقيام بعد الرّكوع والجلوس بين السّجدتين وهذا أيضا مخطئ ظالم لنفسه.
والثالث يصلي بهم كصلاة النّبيّ صلى الله عليه وعلى آله وسلّم فهذا خير الأقسام، وهو الذي قام بالأمانة على الوجه الأكمل، والله الموفّق.