شرح حديث عن البراء بن عازب رضي الله عنهما قال: سمعت النبي صلى الله عليه وسلم قرأ في العشاء بالتين والزيتون، فما سمعت أحدا أحسن صوتا منه. متفق عليه. وعن أبي لبابة بشير بن عبد المنذر رضي الله عنه أن النبي صلى الله عليه وسلم قال: ( من لم يتغن بالقرآن فليس منا ). رواه أبو داود بإسناد جيد. وعن ابن مسعود رضي الله عنه قال: قال لي النبي صلى الله عليه وسلم: ( اقرأ علي القرآن )، فقلت: يا رسول الله، أقرأ عليك وعليك أنزل ؟! قال: ( إني أحب أن أسمعه من غيري ) فقرأت عليه سورة النساء حتى جئت إلى هذه الآية: (( فكيف إذا جئنا من كل أمة بشهيد وجئنا بك على هؤلاء شهيدا )) قال: ( حسبك الآن ) فالتفت إليه فإذا عيناه تذرفان. متفق عليه. حفظ
القارئ : نقل المؤلف -رحمه الله تعالى- في سياق الأحاديث في باب استحباب تحسين الصوت بالقرآن ، وطلب القراءة من حسن الصوت والاستماع لها : " عن البراء بن عازب رضي الله عنهما قال : ( سمعت النبي صلى الله عليه وسلم قرأ في العشاء بالتين والزيتون ، فما سمعت أحدًا أحسن صوتاً منه ) متفق عليه .
وعن أبي لُبابة ، بشير بن عبد المنذر رضي الله عنه ، أن النبي صلى الله عليه وسلم قال : ( مَن لم يتغن بالقرآن فليس منَّا ) رواه أبو داود بإسناد جيد . وعن ابن مسعود رضي الله عنه ، قال : قال النبي صلى الله عليه وسلم : ( اقرأ عليَّ القرآن ، فقلت : يا رسول الله ، أقرأ عليك وعليك أُنزل ؟! قال : إني أحب أن أسمعه من غيري ، فقرأت عليه سورة النساء حتى جئت إلى هذه الآية : (( فكيف إذا جئنا مِن كل أمة بشهيد وجئنا بك على هؤلاء شهيدًا )) قال : حسبك الآن ، فالتفت إليه فإذا عيناه تذرفان ) متفق عليه "
.
الشيخ : بسم الله الرحمن الرحيم :
هذه الأحاديث في بيان استحباب تحسن الصوت والقراءة بالقرآن الكريم ، فحديث البراء بن عازب رضي الله عنه : ( أنه صلى مع النبي صلى الله عليه وسلم صلاة العشاء فقرأ : (( والتين والزيتون )) قال : فما سمعت قراءة أحسن من قراءته ) ، أو قال : صوتا أحسن من صوته ، وكلاهما صحيح ، فالنبي صلى الله عليه وسلم أحسن الناس صوتا بالقرآن ، وهو أول وأولى من يدخل في قوله فيما سبق في الحديث : ( ما أذن الله لشيء إذنه لنبي حسن الصوت يتغنى بالقرآن يجهر به ) ، فرسول الله صلى الله عليه وعلى آله وسلم أحسن الناس صوتًا بالقرآن ، وأحسن الناس أداء بالقراءة ، لأن القرآن عليه أُنزل ، والقرآن هو خلقه عليه الصلاة والسلام .
وفي هذا الحديث دليل على أن صلاة العشاء لا بأس أن يقرأ فيها بقصار المفصل ، لأن التين من قصار المفصل ، ولكن الأكثر أن يقرأ فيها من أوساطه ، لأن النبي صلى الله عليه وعلى آله وسلم : ( أمر معاذ بن جبل أن يقرأ فيها بـ (( سبح اسم ربك الأعلى )) و(( هل أتاك حديث الغاشية )) ، (( والليل إذا يغشى )) ، (( والشمس وضحاها )) ) ، وما أشبه ذلك لكن لا حرج أن يقرأ بقصار المفصل كالتين و(( إذا زلزلت )) وما أشبه ذلك .
وكذلك أيضًا حث النبي صلى الله عليه وسلم على التغني بالقرآن وقال : ( من لم يتغنَّ بالقرآن فليس منا ) : قال العلماء : " وهذه الكلمة لها معنيان المعنى الأول : من لم يتغن به أي : من لم يستغن به عن غيره ، بحيث يطلب الهدى من سواه فليس منا ، وهذا لا شك ، أن من طلب الهدى من غير القرآن أضله الله والعياذ بالله .
والثاني : من لم يتغن أي : من لم يحسن صوته بالقرآن فليس منا ، فيدل على أنه ينبغي للإنسان أن يحسن صوته بالقرآن وأن يستغنى به عن غيره "
.
وأما الحديث الثالث : حديث ابن مسعود رضي الله عنه أن النبي صلى الله عليه وعلى آله وسلم طلب منه أن يقرأ عليه ، فقال له عبد الله بن مسعود : ( أقرأ عليك وعليك أنزل ؟ فقال : إني أحب أن أسمعه من غيري ) ، لأن الإنسان الذي يستمع قد يكون أقرب إلى تدبر القرآن من القارئ ، القاري تجده مركزًا على ألا يخطئ في القراءة ، والمستمع يتدبر ويتأمل ، ولهذا قيل : " القارئ حالب والمستمتع شارب " : يعني القارئ يحلب الناقة أو الشاة والمستمع شارب : هو الذي يستفيد .
المهم أن النبي صلى الله عليه وعلى آله وسلم طلب من عبد الله بن مسعود أن يقرأ عليه فقال : ( أقرأ عليك والقرآن عليك أُنزل قال : إني أحب أن أسمعه من غيري ، فقرأ بسورة النساء حتى إذا جاء إلى قول الله تعالى : (( فكيف إذا جئنا من كل أمة بشهيد وجئنا بك على هؤلاء شهيدًا )) ) : يعني كيف تكون الحال ؟ فقال : ( حسبك الآن ، يقول : فالتفت فإذا عيناه تذرفان ) : يبكي عليه الصلاة والسلام أن يؤتى به يوم القيامة شهيدًا على أمته ، لأنه يُؤتى يوم القيامة من كل أمة بشهيد ، الأنبياء شهداء ، العلماء شهداء ، لأن العلماء واسطة بين الرسل وبين الخلق ، هم الذين يحملون شريعة الرسل إلى الخلق ، فهم شهداء ، فالعالم يشهد بأمرين :
أمر أعلى وأمر أسفل ، الأمر الأعلى : يشهد بأن هذا حكم الله ، والأمر الأسفل : يشهد بأنه قد بلغ الناس ، لأن العالم مبلغ ، فمثلا يقرأ آية يقرأ حديثا ويقول للناس : معناها كذا وكذا اعملوا بها فيشهد عليهم ، فهو شاهد من طرفين طرف أعلى وطرف أسفل ، الطرف الأعلى : أنه يشهد بأن هذا حكم الله بلغه إلى العباد ، والأسفل : أنه يشهد أنه بلغه الناس إياها ، فقامت عليهم الحجة ، فيوم القيامة يؤتى من كل أمة بشهيد ، أول من يشهد الرسل نشهد أننا بلغنا رسالة ربنا إلى خلقه ، ويؤتى من هذه الأمة بمحمد صلوات الله وسلامه عليه يستشهده الله ، فيشهد أنه بلغ مع أن النبي صلى الله عليه وعلى آله وسلم استشهد ربه في أكبر مُجمَّع للمسلمين في ذلك الوقت في يوم عرفة ، لما خطب الناس الخطبة الطويلة البليغة العظيمة قال : ( ألا هل بلغت ؟ قالوا : نعم ، قال : اللهم اشهد ، ألا هل بلغت ؟ قالوا : نعم ، قال : اللهم اشهد ، ألا هل بلغت ؟ قالوا : نعم ، قال : اللهم اشهد ) .
لما وصل هذه الآية بكى عليه الصلاة والسلام لأنه تصور هذه الحال تخيلها حالًا عظيمة ، كل أمة جاثية وكل أمة تدعى إلى كتابها ، كل أمة تأتي جاثية على الركب من شدة الهول وعظمته : (( كل أمة تدعى إلى كتابها اليوم تجزون ما كنتم تعملون )) .
ولهذا قال في الآية الكريمة التي وقف عليها عبد الله بن مسعود : (( يومئذ يود الذين كفروا وعصوا الرسول لو تسوَّى بهم الأرض )) : يعنى يودون أنهم ما بعثوا ولا خلقوا ، (( ولا يكتمون الله حديثًا )) ، (( فكيف إذا جئنا من كل أمة بشهيد وجئنا بك على هؤلاء شهيدًا )) نعم ، (( يومئذ يود الذين كفروا وعصوا الرسول لو تسوى بهم الأرض ولا يكتمون الله حديثًا )) : يودون أنهم بقوا في الأرض أو أن يكونوا ترابًا ، ولكن لا ينفعهم ، ولهذا قال : (( ولا يكتمون الله حديثاً )) ، فالمهم نأخذ من هذا الحديث أنه يجوز للإنسان أن يطلب من شخص قارئ أن يقرأ عليه ، ولو كان هذا القارئ أقل منه علمًا ، لأن بعض الناس يعطيه الله تعالى حُسن صوت وحسن أداء وإن كان قليل العلم فلا بأس أن تقول : يا فلان جزاك الله خيراً اقرأ عليّ ، إما أن تعين له ما يقرأ وإما أن تدع الأمر إليه فتستمع .
وفي هذا الحديث بركة القرآن : أنه ينتفع به القارئ والمستمع ، ولا شك أن القرآن أعظم الكتب بركة ، وأفيدها ، وأصلحها للقلب ، وأرضاها للرب ، نسأل الله أن يجعلني وإياكم من أهل القرآن ، الذين يعملون به ظاهرا وباطنا يموتون عليه ويحيون عليه ، والله الموفق .