تتمة شرح حديث ( ... وكلني رسول الله صلى الله عليه وسلم بحفظ زكاة رمضان، فأتاني آت فجعل يحثو من الطعام، فأخذته فقلت: لأرفعنك إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم، قال: إني محتاج وعلي عيال ... ) حفظ
الشيخ : (( الله لا إله إلا هو الحي القيوم )) إلى آخرها ، فأطلقه ولم يأخذ شيئا من الطعام ، فلما أصبح قال له النبي صلى الله عليه وسلم : ( ما فعل أسيرك البارحة ؟ قال : يا رسول الله إنه قال : إني أعلمك كلمات ينفعك الله بهن . فقلت : ما هُن ؟ قال : آية الكرسي : (( الله لا إله إلا هو الحي القيوم لا تأخذه سنة ولا نوم )) فقال : أما إنه صدقك وهو كذوب ) : صدقك : يعني أخبرك بالصدق ، وهو كذوب يعني : شيطان ، الشيطان كذوب لا شك فيه ، كذوب غرور ، كذب على أبينا آدم وقال له أي لأبينا آدم وهو في الجنة : (( هل أدلك على شجرة الخلد وملك لا يبلى )) : الشجرة هذه شجرة قال الله لآدم وحواء : كلا من حيث شئتما من الجنة من أي شجر منها ، لكن لا تقربا هذه الشجرة ، فجاء الشيطان إلى آدم وحواء وغرهما وأقسم لهما أنه ناصح وهو كاذب ، هو الغاش فهو كذوب ، وأقره النبي عليه الصلاة والسلام : ( أن من قرأ هذه الآية في ليلة لم يزل عليه من الله حافظ ولا يقربه شيطان حتى يصبح ) هذه القصة ففيها فوائد :
أولاً : أنه لا بأس أن الناس يُخرجون صدقات الفطر إلى وليِّ الأمر يعني إلى السلطان أو نائب السلطان ، فلو شُكلت لجنة تقبض زكاة الفطر من الناس فإن الإنسان إذا دفعها إلى هذه اللجنة بَرِأت ذمته .
ومن فوائد الحديث : جواز تصرف الوكيل فيما وكِّل فيه إذا وافق على ذلك الموكِّل ، لأن أبا هريرة تصرف هذا التصرف وأعطى الرجل ، أقول الرجل أو الشخص ، لأن حتى الجن يسمون رجال كما قال تعالى : (( وأنه كان رجال من الإنس يعوذون برجال من الجن )) ، فأبو هريرة تصرف في الليلة الثانية مع أن الرسول قال : ( كذبك ) نعم ( أما إنه كذبك وسيعود ) ، ( أما إنه كذبك وسيعود ) ، فأعطاه .
وفيه أيضا دليل على أن الشيطان قد يتمثل بصورة الإنسان ، وهو كذلك ، الشياطين تتمثل بصورة الآدميين ، وتتمثل بصورة الكلاب ، حتى قال بعض العلماء في قول الرسول عليه الصلاة والسلام : ( الكلب الأسود شيطان ) أي : أن الشياطين تتمثل فتكون كلابًا سودا ، ولكن الصحيح أن معنى الحديث : أن الكلب الأسود شيطان يعني هو شيطان الكلاب وأخبثها وأشدها ضررًا وتمردًا ، وتتمثل الشياطين بالحيوانات ، تتمثل بالقط وتتمثل أيضًا بالحية ، بالحيات كما جاء في الحديث الصحيح : ( أن رجلا من الأنصار شاباً تزوج حديثًا ، فلما جاء إلى بيته وجد زوجته على الباب ، فسألها ليش ؟ قالت : ادخل ، فلما دخل وجد على الفراش حيَّة متطوية فأخذ الرمح فوخزها ) : الرمح الذي يقاتل فيه : ( فوخرها فماتت ولما ماتت مات هو في الحال ) ، فلا يُدرى أيهما أسرع موتًا الحية ولا هذا الرجل ، لأن الحية هذه صارت جنية فلما قتلها قتله أهلها في الحال ، ولهذا نهى النبي عليه الصلاة والسلام عن قتل الحيات التي في البيوت ، فلا يجوز لإنسان أن يقتل الحية إذا رأها في بيته ، لكن ماذا يصنع ؟ يبقى كلما دخل بيته وإذا هذه الحية تزعجه تزعج أولاده وأهله نقول : كل مشكلة لها حل والحمد لله ، حرج عليها ثلاثة أيام قل لها : أنت مني في حرج لا تقعدي في بيتي ، إذا جاءت بعد الثالثة اقتلها ، لأنها إن كانت جنية فهي إذا حُرِجت لا تأتي ، وإن كانت هي دابة من الحيوانات فإنها لا تدري تأتي بعد الثالثة وحينئذ تقتل ، إلا أن الرسول صلى الله عليه وسلم استثنى جنسين من هذه الدواب تقتل ولو في البيوت وهي : الأبتر وذو الطفيتين ، الأبتر يعني : قصير الذنب ، فيه حيات معينة أذنابها قصيرة ، هذه تقتل ولو في البيت . وذو الطفيتين يقول العلماء : " إنهما خطان أبيضان على ظهر الحية " : هذه تقتل ولو في البيوت ، لأنهما كما قال النبي عليه الصلاة والسلام : ( يخطفان البصر ) من شدة قبحهما ، ( ويَتبعان ما في بطون النساء ) يعني : يسقطن الحمل ، فلهذا أمر النبي عليه الصلاة والسلام بقتل هذين الصنفين ولو في البيوت .
الشاهد من هذا أن الشيطان والجن يتمثلون بصور غير صورهم الأصلية .
وفي هذا الحديث أيضا من الفوائد : أن يجوز تقديم زكاة الفطر قبل العيد ، ولو بأكثر من يومين إذا كانت تُدفع إلى ولي الأمر ، وولي الأمر يجب عليه ألا يصرفها إلا في وقتها .
ومن فوائد الحديث : آية من آيات الرسول عليه الصلاة والسلام ، وهو علمه بما جرى مع أنه لم يطلع ، لكن جاءه الوحي من الله عز وجل .
ومن فوائده : أنه ينبغي للإنسان كلما جاء إلى فراشه للنوم في الليل يقرأ آية الكرسي من أولها إلى آخرها ، وليس منها قوله تعالى : (( لا إكراه في الدين )) : هذه آية خارجة عن آية الكرسي ، آخر آية الكرسي (( وهو العلي العظيم )) : فتقرأها كلما أويت إلى فراشك ، كل ليلة ، حتى لا يقربك الشيطان ، حتى تصبح ولا يزال عليك من الله حافظ .
وحدثني جد هذا الرجل الذي يؤذن بنا الآن أنه كان يقرؤها كل ليلة ، وأنه نسيها ليلة من الليال ، فلدغته عقرب ، لأن الرسول يقول : ( لا يزال عليه من الله حافظ ) ، وهو نسي أن يقرأها فلم يوجد الحافظ فلدغته العقرب ، فإذًا احرص على أن تقرأ آية الكرسي كل ليلة وخصوصًا إذا أويت إلى فراشك .
وفي هذا الحديث من الفوائد : قبول الحق ولو جاء من أي إنسان ، أي إنسان يأتي بحق اقبل منه حتى لو كان شيطان ، حتى لو كان مشرك ، حتى لو كان يهودي أو نصراني ، إذا جاء بالحق اقبله ، فإن الله قبل الحق من المشركين ، والنبي صلى الله عليه وسلم قبل الحق من اليهودي ، وأقر الحق من الشيطان كما في هذا الحديث ، أما الأول : قبول الحق من المشركين ، فإن الله قال عن المشركين : (( وإذا فعلوا فاحشة قالوا وجدنا عليها آباءنا والله أمرنا بها )) فتعللوا بعلتين الأولى : أنهم وجدوا عليها آباءهم . والثانية : أن الله أمرهم بها فقال الله تعالى : (( قل إن الله لا يأمر بالفحشاء )) وسكت عن قولهم : وجدنا عليها آباءنا ، لأن قولهم : وجدنا عليها آباءنا حق صحيح ، وجدوا آباءهم على هذه الفاحشة ، لكن الله لم يأمرهم بها : (( قل إن الله لا يأمر بالفحشاء )) .
وأما قبول النبي صلى الله عليه وعلى آله وسلم من اليهودي ، فإنه جاءه حبر من أحبار اليهود يعني عالم من علمائهم ، قال : ( إنا نجد أن الله يجعل السموات على إصبع والأرضين على إصبع والشجر على إصبع ) وذكر تمام الحديث : ( فضحك النبي صلى الله عليه وعلى آله وسلم حتى بدت نواجده تصديقًا لقول هذا اليهودي ) : الحبر ، ثم قرأ صلى الله عليه وعلى آله وسلم : (( وَمَا قَدَرُوا اللَّهَ حَقَّ قَدْرِهِ وَالْأَرْضُ جَمِيعًا قَبْضَتُهُ يَوْمَ الْقِيَامَةِ وَالسَّمَاوَاتُ مَطْوِيَّاتٌ بِيَمِينِهِ سُبْحَانَهُ وَتَعَالَى عَمَّا يُشْرِكُونَ )) .
وأقر الحق الذي قال به الشيطان كما في هذا الحديث ، فيجب عليك أيها المسلم أن تقبل الحق من أي إنسان ، وأن ترد الباطل من أي إنسان ، من قال الباطل فقوله مردود ، ومن قال الحق فقوله مقبول ، ولهذا كان من الكلمات المأثورة عند العلماء : " أن الرجال يُعرفون بالحق ، والحق لا يعرف بالرجال " : يعني لا تجعل مدار قبولك الحق على الرجل ، صحيح أن العالم تثق بقوله أكثر من غيره فتقبل ما يقول أكثر مما لو قاله عامي ، لكن ليس كل ما يقول العالم حقًا ، قد يخطئ وقد يصيب ، إنما العالم أقرب إلى الصواب بلا شك ، ولهذا قالوا : " إنما يعرف الرجال بالحق ، وأما الحق فلا يعرف بالرجال " ، لأن الرجل قد يخطئ وقد يصيب ، والله الموفق .