تتمة باب وجوب صوم رمضان وبيان فضل الصيام وما يتعلق به: قال الله تعالى: (( يا أيها الذين آمنوا كتب عليكم الصيام كما كتب على الذين من قبلكم )) إلى قوله تعالى: (( شهر رمضان الذي أنزل فيه القرآن هدى للناس وبينات من الهدى والفرقان فمن شهد منكم الشهر فليصمه، ومن كان مريضا أو على سفر فعدة من أيام أخر )). حفظ
الشيخ : بسم الله الرحمن الرحيم :
سبق الكلام على هذه الآية الكريمة : (( يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا كُتِبَ عَلَيْكُمُ الصِّيَامُ كَمَا كُتِبَ عَلَى الَّذِينَ مِنْ قَبْلِكُمْ لَعَلَّكُمْ تَتَّقُونَ * أَيَّامًا مَعْدُودَاتٍ فَمَنْ كَانَ مِنْكُمْ مَرِيضًا أَوْ عَلَى سَفَرٍ فَعِدَّةٌ مِنْ أَيَّامٍ أُخَرَ )) .
وقسم العلماء -رحمهم الله- المرض إلى ثلاثة أقسام : قسم مرض لا يرجى بُرؤه بل هو مستمر ، فهذا لا صيام على المريض ، ولكن عليه أن يطعن عن كل يوم مسكينا ، لأنه من جنس الكبير العاجز عن الصوم ، الذي لا يرجى زوال عجزه .
والثاني : المريض مرضًا يضره الصوم ، ويُخشى عليه أن يتلف به كمريض لا يصبر عن الماء ، مثل بعض أنواع مرض السكري أو ما أشبه ذلك ، فهذا يحرم عليه الصوم لقول الله تعالى : (( ولا تقتلوا أنفسكم إن الله كان بكم رحيمًا )) .
والقسم الثالث : مرض يشق معه الصوم لكن لا ضرر فيه ، فهنا الأفضل أن يفطر ولا يصوم ويقضي بعد ذلك ، وأما المرض الذي لا يؤثر فيه الصيام شيئًا كمرض العين اليسير ، ومرض السن وما أشبه ذلك فإنه لا يجوز فيه الفطر ، لأن الحكمة من الرخصة هو إزالة المشقة ، وهذا لا مشقة عليه إطلاقا ، فلا يحل له الفطر ، والأصل وجوب الصوم في وقته إلا بدليل بين واضح يبيح للإنسان أن يفطر ثم يقضي بعد ذلك .
وأما السفر فإن السفر ينقسم فيه الصوم أيضا إلى ثلاثة أقسام :
قسم يضره الصوم ويشق عليه مشقة شديدة بسبب سفره ، مثل أن يسافر في أيام الحر والأيام الطويلة ، ويُعلم أنه لو صام لتضرر به وشق عليه مشقة غير محتملة ، فهذا يكون عاصيا إذا صام ، والدليل لذلك ( أن النبي صلى الله عليه وعلى آله وسلم شكي إليه أن الناس قد شق عليهم الصيام ، وهو في سفر فدعا بماء وشربه والناس ينظرون إليه ) : حتى لا يكون في صدورهم حرج إذا أفطروا وكان ذلك بعد العصر- ، ولكن بعض الصحابة رضي الله عنهم بقوا على صومهم فجيء إلى النبي صلى الله عليه وعلى آله وسلم وقالوا وقيل له : ( إن بعض الناس قد صام فقال : أولئك العصاة أولئك العصاة ) : فوصفهم بالعصيان ، لأنهم لم يقبلوا رخصة الله مع مشقة ذلك عليهم مشقة شديدة .
والقسم الثاني : من يشق عليه مشقة لكنها محتملة ، فهذا يكره له الصوم ، وليس من البر أن يصوم ، ودليل ذلك : ( أن النبي صلى الله عليه وعلى آله وسلم كان في سفر فرأى زِحامًا ورجلا قد ظلل عليه فقال : ما هذا ؟ قالوا : صائم قال : ليس من البر الصيام في السفر ) .
والقسم الثالث : من لا يتأثر بالسفر إطلاقا ، يعني هو صائم ولا يتأثر ، لأن النهار قصير والوقت بارد ولا يهمه ، فهذا اختلف العلماء أيهما أفضل أن يفطر أو يصوم أو يُخير ؟ والصحيح أن الأفضل أن يصوم ، لأن ذلك أشد اتباعًا لسنة النبي صلى الله عليه وعلى آله وسلم ، ولأنه أيسر على المكلف ، فإن الصيام مع الناس أيسر من القضاء كما هو معروف ، ولأنه أسرع في المبادرة إلى إبراء الذمة ، ولأنه يصادف الزمن الذي يكون الصوم فيه أفضل وهو شهر رمضان ، فمن أجل هذه الوجوه الأربعة صار الصوم أفضل .
قال أبو الدرداء رضي الله عنه : ( كنا مع النبي صلى الله عليه وسلم في رمضان في حرٍ شديد ، حتى إن أحدنا ليضع يده على رأسه من شدة الحر ، وكان الصيام في السفر ، وأكثرنا ظِلا صاحب الكساء ، وما فينا صائم إلى رسول الله صلى الله عليه وعلى آله وسلم وعبد الله بن رواحة ) : هذا حكم الصوم في السفر ، والسفر عامٌّ فيمن يسافر للعمرة ، أو يسافر لغير ذلك ، وفيمن سفره دائم وسفره عارض ، وعلى هذا فأهل التكاسي وأهل سيارات الحمولة يفطرون ولو كان سفرهم مستمرًا ، لأن لهم وَطنًا يأوون إليه ، فإذا فارقوا هذا الوطن فهم مسافرون .
فإذا قال قائل : متى يصومون ؟ قلنا : يصومون في أيام الشتاء أيسر لهم وأسهل ، أو إذا قدموا إلى بلدهم في رمضان يلزمهم الصوم ، لأنه زال عنهم السفر ، والله الموفق .