باب كراهة الخروج من بلد وقع فيها الوباء فرارا منه وكراهة القدوم عليه : قال تعالى: (( أينما تكونوا يدرككم الموت ولو كنتم في بروج مشيدة )) وقال تعالى: (( ولا تلقوا بأيديكم إلى التهلكة )). عن ابن عباس رضي الله عنهما أن عمر بن الخطاب رضي الله عنه خرج إلى الشام حتى إذا كان بسرغ لقيه أمراء الأجناد - أبو عبيدة بن الجراح وأصحابه - فأخبروه أن الوباء قد وقع بالشام، قال ابن عباس: فقال لي عمر: ادع لي المهاجرين الأولين، فدعوتهم، فاستشارهم، وأخبرهم أن الوباء قد وقع بالشام، فاختلفوا، فقال بعضهم: خرجت لأمر، ولا نرى أن ترجع عنه. وقال بعضهم: معك بقية الناس وأصحاب رسول الله صلى الله عليه وسلم، ولا نرى أن تقدمهم على هذا الوباء. فقال: ارتفعوا عني، ثم قال: ادع لي الأنصار، فدعوتهم، فاستشارهم، فسلكوا سبيل المهاجرين، واختلفوا كاختلافهم، فقال: ارتفعوا عني، ثم قال: ادع لي من كان ها هنا من مشيخة قريش من مهاجرة الفتح، فدعوتهم، فلم يختلف عليه منهم رجلان، فقالوا: نرى أن ترجع بالناس، ولا تقدمهم على هذا الوباء، فنادى عمر رضي الله عنه في الناس: إني مصبح على ظهر، فأصبحوا عليه، فقال أبو عبيدة بن الجراح رضي الله عنه: أفرارا من قدر الله ؟ فقال عمر رضي الله عنه: لو غيرك قالها يا أبا عبيدة ! - وكان عمر يكره خلافه - نعم نفر من قدر الله إلى قدر الله، أرأيت لو كان لك إبل، فهبطت واديا له عدوتان، إحداهما خصبة، والأخرى جدبة، أليس إن رعيت الخصبة رعيتها بقدر الله، وإن رعيت الجدبة رعيتها بقدر الله، قال: فجاء عبد الرحمن بن عوف رضي الله عنه، وكان متغيبا في بعض حاجته، فقال: إن عندي من هذا علما، سمعت رسول الله صلى الله عليه وسلم يقول: ( إذا سمعتم به بأرض فلا تقدموا عليه، وإذا وقع بأرض وأنتم بها فلا تخرجوا فرارا منه ). فحمد الله تعالى عمر رضي الله عنه وانصرف. متفق عليه. وعن أسامة بن زيد رضي الله عنه عن النبي صلى الله عليه وسلم قال: ( إذا سمعتم الطاعون بأرض، فلا تدخلوها، وإذا وقع بأرض وأنتم فيها فلا تخرجوا منها ). متفق عليه. حفظ
القارئ : " وعن أسامة بن زيد رضي الله عنه ، عن النبي صلى الله عليه وسلم قال : ( إذا سمعتم الطاعون بأرض فلا تدخلوها ، وإذا وقع بأرض وأنتم فيها فلا تخرجوا منها ) متفق عليه " .
الشيخ : بسم الله الرحمن الرحيم :
هذا الباب باب عظيم عقده المؤلف -رحمه الله تعالى- في كتاب : *رياض الصالحين* ، " وهو كراهة أن يقدم الإنسان على أرض نزل فيها البلاء وأن يخرج منها بعد نزول البلاء فرارا منه " :
يعني إذا سمعت بوباء نازل في أرض فلا تقدم عليها ، وإذا وقع وأنت فيها فلا تخرج منها فرارا منه .
ثم استدل المؤلف -رحمه الله- بقول الله تبارك وتعالى : (( أينما تكونوا يدرككم الموت ولو كنتم في بروج مشيدة )) : إشارة إلى قوله : ( لا تخرجوا منها ) ، والله يقول : (( أينما تكونوا )) في أي مكان في أي زمان ، (( ولو كنتم في بروج مشيدة )) : يعني محصنة مطوية مليسة بالشيد يعني بالجص محكمة متقنة فإن الموت سوف يأتيكم ، (( أينما تكونوا يدرككم الموت ولو كنتم في بروج مشيدة )) .
وفي آية أخرى أعظم من هذا وأبلغ : (( قل إن الموت الذي تفرون منه فإنه ملاقيكم )) : تفر منه وهو لا يلحقك بل يلاقيك ويقابلك ، فلا فرار من الموت ، فكيف تخرج من أرض نزل فيها الوباء فراراً من الموت ؟! إنك لو فعلت فليس لك فرار من قدر الله عز وجل ، واقرأ قول الله تعالى : (( ألم تر إلى الذين خرجوا من ديارهم وهم ألوفٌ حذر الموت فقال لهم الله موتوا ثم أحياهم )) : هؤلاء أُلوف كثيرة مؤلفة نزل الوباء في أرضهم فخرجوا خوفا من الموت ، فأراهم الله عز وجل الآية وأنه بكل شيء محيط ، وأنه مدرك ما أراد لا محالة ، فقال الله لهم : (( موتوا )) : قال ذلك قولا كونياً قدرياً فماتوا ، لأن الله إذا أراد شيئا قال له كن فيكون ، ماتوا وهم ألوف ثم أحياهم الله ، والله على كل شيء قدير ، لكن أراهم الله عز وجل أنه لا فرار من قدر الله عز وجل ، لا فرار .
ثم استدل المؤلف على كون الإنسان لا يقدم على أرض فيها الوباء بقول الله تعالى : (( ولا تلقوا بأيديكم إلى التهلكة )) : أي لا تفعلوا الشيء الذي يكون به هلاككم .
ثم استدل أيضا بالأحاديث الواردة عن النبي صلى الله عليه وسلم ، وذكر قصة عمر بن الخطاب رضي الله عنه ، حين خرج من المدينة إلى الشام ، فذُكر له الطاعون وفيه أن النبي صلى الله عليه وسلم قال : ( إذا سمعتم به في أرض فلا تقدموا عليها ) : فنهى النبي صلى الله عليه وسلم عن القدوم إلى أرض فيها الطاعون ، والطاعون وباء فتاك والعياذ بالله .
قال بعض أهل العلم : " إنه نوع خاص من الوباء ، وإنه عبارة عن جروح وتقرحات في البدن تصيب الإنسان وتجري جريان السيل حتى تقضي عليه " ،
وقيل : إن الطاعون وخز في البطن يصيب الإنسان فيموت .
وقيل : " إن الطاعون اسم لكل وباء عام ينتشر بسرعة كالكوليرا وغيرها " : وهذا أقرب فإن هذا إن لم يكن داخلا في اللفظ فهو داخل في المعنى ، كل وباء عام ينتشر بسرعة فإنه لا يجوز للإنسان أن يقدم على البلد الذي حل فيه هذا الوباء .
( وإذا وقع وأنتم فيها فلا تخرجوا منها ) ، لأنكم تخرجون منها فرارا من قدر الله ، لو فررتم فإنكم مدرَكون لا محالة ، ولهذا قال : ( لا تخرجوا منها فرارا منه ) ، أما خروج الإنسان منها لا فرارا منه ولكن لأنه أتى إلى هذا البلد لحاجة ثم انقضت حاجته وأراد أن يرجع إلى بلده فلا بأس، ويأتي إن شاء الله الكلام على قصة عمر بن الخطاب رضي الله عنه، وما فيها من الفوائد والفقه إن شاء الله تعالى، والله أعلم.
في الكلام على هذا الحديث الذي رواه عبد الله بن عباس رضي الله عنهما : أنه كان مع عمر حين خرج إلى الشام ، وذلك والله أعلم لفتح بيت المقدس ، فلما كان في أثناء الطريق أتاه أمراء الأجناد يخبرونه بأنه وقع في الشام طاعون : والطاعون والعياذ بالله وباء فتاك سريع الانتشار ، فتوقف عمر وأمر عبد الله بن عباس رضي الله عنهما أن يدعو له المهاجرين ، فدعاهم وشاورهم فاختلفوا فمنهم من قال : لا ترجع عما أتيت إليه ، ومنهم من قال : ارجع ، ثم قال: ارتفعوا عني ، ثم أمر عبد الله بن عباس أن يجمع الأنصار فجمعهم واختلفوا كاختلاف المهاجرين ، ثم قال: ارتفعوا عني ، ثم أمره أن يدعو مشيخة مهاجرة الفتح : يعني كبار المهاجرين فدعاهم فلم يختلف عليه اثنان وقالوا ارجع ، فنادى في الناس إني مصبح على ظهر : يعني راجع ، فقال أبو عبيدة عامر بن الجراح رضي الله عنه ، ( الذي سماه النبي صلى الله عليه وسلم أمين هذه الأمة ) قال : يا أمير المؤمنين أفرارا من قدر الله؟ يعني ترجع بالناس تفر من قدر الله ، قال : لو غيرك قالها يا أبا عبيدة وكان يكره مخالفته : يعني لو أن غيرك قالها لكان أهون أما أنت فكيف تقول هذا ؟! .
ثم ضرب له مثلاً مقنعا قال: أرأيت لو كان لك إبل فهبطت بها وادياً له عدوتان يعني : شعبتين إحداهما مخصبة والثانية مجدبة ، فإن رعيتها في المخصبة رعيتها بقدر الله ، وإن رعيتها في المجدبة رعيتها بقدر الله ، ومعلوم أنك سوف تختار المخصبة على المجدبة يعني فهذا مثله.
فبينما هم كذلك إذ جاء عبد الرحمن بن عوف رضي الله عنه وكان قد تغيب في حاجة له فقال : إن عندي من ذلك علما يعني عن النبي صلى الله عليه وسلم ثم تلا عليهم الحديث : ( إذا سمعتم به في أرض فلا تقدموا عليه وإذا وقع وأنتم فيها فلا تخرجوا فرارا منه ) : فوافق هذا حكم النبي صلى الله عليه وسلم فحمد اللهَ عمرُ رضي الله عنه على موافقت الصواب .
ففي هذا الحديث فوائد منها :
أن الخليفة يتولى الغزو بنفسه إذا دعت الحاجة إلى ذلك .
ومنها : حسن سياسة أمير المؤمنين عمر رضي الله عنه ، فإنه على ما عنده من الدين والعلم والعقل وإصابة الصواب لم يبت في هذا الأمر إلا بعد المشاورة والمراجعة .
ومنها : أنه ينبغي أن يبدأ بالأفضل فالأفضل في المشاورة ، الأفضل في علمه وفي رأيه وفي نصحه ، يبدأ بالأفضل فالأفضل ، فإذا أُشير عليه انتهى الموضوع ما حاجة أن يأتي بالآخرين ، وإلا أتى بالآخرين الذين دونهم .
ومنها : أن المشاورة من سمات المؤمنين كما قال الله تبارك وتعالى : (( وأمرهم شورى بينهم )) ، فينبغي لمن ولاه الله أمراً وتردد في شيء من الأشياء ولم يتبين له الصواب أن يشاور غيره من ذوي العقل والدين والتجربة ، وكذلك إذا كان الأمر عاماً يعم الناس كلهم ، فإنه ينبغي أن يشاور حتى يصدر عن رأي الجميع .
ومنها : أنه يجوز للواحد من الرعية أن يراجع الإمام لكن بحضرته ، لأن أبا عبيدة راجع عمر بن الخطاب رضي الله عنه لكن بحضرته ، وبشرط أن يكون المراجِع ممن له علم ودين وعقل ، ليس ممن عنده غيرة عاصفة وعاطفة هوجاء ، فإن هذا لا يتكلم ، إنما يتكلم العقلاء ، هم الذين يتكلمون مع ولاة الأمور ، ولكن لا يتكلمون من وراء ولي الأمر بل يتكلمون من بين يديه حتى يحصل النقاش والإقناع .
ومنها : ضرب الأمثال ، فإن ضرب الأمثال يقرب المعاني للإنسان ، وذلك أن عمر رضي الله عنه ضرب مثلا لأبي عبيدة : إنسان هبط واديا ومعه إبل وله شعبتان : إحداهما مخصبة فيها الأشجار وفيها الحشيش وفيها كل شيء ينفع الإبل . والثانية : مجدبة بيضاء ، فمن المعلوم أن الإنسان لن يختار المجدبة سوف يختار المخصبة ، فاختياره للمخصبة بقدر الله عز وجل وعدوله عن المجدبة بقدر الله عز وجل .
ومنها : الرد على القدرية المعتزلة الذين يقولون إن الإنسان مستقل بعمله ، لا علاقة لله به والعياذ بالله ، ولهذا سموا مجوس هذه الأمة ، لأنهم يشبهون المجوس ، ولكن الإنسان يفعل الفعل بقدر الله عز وجل .
ومنها : أنه قد يخفى العلم الشرعي على كبراء الناس ، ويعلمه من دونهم ، فإنه لا شك أن عمر بن الخطاب رضي الله عنه أعلم بكثير من عبد الرحمن بن عوف ، وكذلك كثير ممن معه عندهم من العلم ما ليس عند عبد الرحمن بن عوف ، لكن قد يكون عند الصغير من العلم ما ليس عند الكبير كما حصل هذا .
ومنها : حكمة النبي صلى الله عليه وسلم في أن الإنسان لا يقدم على ما فيه الهلكة والضرر ، لأن الله تعالى قال : (( ولا تقتلوا أنفسكم )) وقال : (( ولا تلقوا بأيديكم إلى التهلكة )) ، فلا يجوز للإنسان أن يخاطر في أمر يخشى منه الهلاك ، وإن كان كل شيء بقدر لكن الأسباب لها أثرها .
ومنها : أنه إذا وقع الوباء في الأرض فإنه لا يجوز للإنسان أن يخرج منها فرارا منه وأما إذا خرج لحاجة فلا بأس .
ومنها : أنه لا بأس أن يستعمل الإنسان من الأدوية والحبوب والإبر ما يمنع الوباء ، لأن ذلك من الوقاية قبل نزول البلاء ، ولا بأس بها ، كما أن الإنسان إذا نزل به الوباء وعالجه فلا حرج عليه ، فكذلك إذا أخذ وقاية منه فلا حرج عليه ، ولا يعد هذا من نقص التوكل ، بل هذا من التوكل ، لأن فعل الأسباب الواقية من الهلاك والعذاب أمر مطلوب ، والذي يتوكل أو يدعي أنه متوكل ولا يفعل الأسباب ليس بمتوكل حقيقة ، بل إنه طاعن في حكمة الله عز وجل ، لأن حكمة الله تأبى أن يكون الشيء إلا بالسبب الذي قدره الله تعالى له، والله الموفق.
الشيخ : بسم الله الرحمن الرحيم :
هذا الباب باب عظيم عقده المؤلف -رحمه الله تعالى- في كتاب : *رياض الصالحين* ، " وهو كراهة أن يقدم الإنسان على أرض نزل فيها البلاء وأن يخرج منها بعد نزول البلاء فرارا منه " :
يعني إذا سمعت بوباء نازل في أرض فلا تقدم عليها ، وإذا وقع وأنت فيها فلا تخرج منها فرارا منه .
ثم استدل المؤلف -رحمه الله- بقول الله تبارك وتعالى : (( أينما تكونوا يدرككم الموت ولو كنتم في بروج مشيدة )) : إشارة إلى قوله : ( لا تخرجوا منها ) ، والله يقول : (( أينما تكونوا )) في أي مكان في أي زمان ، (( ولو كنتم في بروج مشيدة )) : يعني محصنة مطوية مليسة بالشيد يعني بالجص محكمة متقنة فإن الموت سوف يأتيكم ، (( أينما تكونوا يدرككم الموت ولو كنتم في بروج مشيدة )) .
وفي آية أخرى أعظم من هذا وأبلغ : (( قل إن الموت الذي تفرون منه فإنه ملاقيكم )) : تفر منه وهو لا يلحقك بل يلاقيك ويقابلك ، فلا فرار من الموت ، فكيف تخرج من أرض نزل فيها الوباء فراراً من الموت ؟! إنك لو فعلت فليس لك فرار من قدر الله عز وجل ، واقرأ قول الله تعالى : (( ألم تر إلى الذين خرجوا من ديارهم وهم ألوفٌ حذر الموت فقال لهم الله موتوا ثم أحياهم )) : هؤلاء أُلوف كثيرة مؤلفة نزل الوباء في أرضهم فخرجوا خوفا من الموت ، فأراهم الله عز وجل الآية وأنه بكل شيء محيط ، وأنه مدرك ما أراد لا محالة ، فقال الله لهم : (( موتوا )) : قال ذلك قولا كونياً قدرياً فماتوا ، لأن الله إذا أراد شيئا قال له كن فيكون ، ماتوا وهم ألوف ثم أحياهم الله ، والله على كل شيء قدير ، لكن أراهم الله عز وجل أنه لا فرار من قدر الله عز وجل ، لا فرار .
ثم استدل المؤلف على كون الإنسان لا يقدم على أرض فيها الوباء بقول الله تعالى : (( ولا تلقوا بأيديكم إلى التهلكة )) : أي لا تفعلوا الشيء الذي يكون به هلاككم .
ثم استدل أيضا بالأحاديث الواردة عن النبي صلى الله عليه وسلم ، وذكر قصة عمر بن الخطاب رضي الله عنه ، حين خرج من المدينة إلى الشام ، فذُكر له الطاعون وفيه أن النبي صلى الله عليه وسلم قال : ( إذا سمعتم به في أرض فلا تقدموا عليها ) : فنهى النبي صلى الله عليه وسلم عن القدوم إلى أرض فيها الطاعون ، والطاعون وباء فتاك والعياذ بالله .
قال بعض أهل العلم : " إنه نوع خاص من الوباء ، وإنه عبارة عن جروح وتقرحات في البدن تصيب الإنسان وتجري جريان السيل حتى تقضي عليه " ،
وقيل : إن الطاعون وخز في البطن يصيب الإنسان فيموت .
وقيل : " إن الطاعون اسم لكل وباء عام ينتشر بسرعة كالكوليرا وغيرها " : وهذا أقرب فإن هذا إن لم يكن داخلا في اللفظ فهو داخل في المعنى ، كل وباء عام ينتشر بسرعة فإنه لا يجوز للإنسان أن يقدم على البلد الذي حل فيه هذا الوباء .
( وإذا وقع وأنتم فيها فلا تخرجوا منها ) ، لأنكم تخرجون منها فرارا من قدر الله ، لو فررتم فإنكم مدرَكون لا محالة ، ولهذا قال : ( لا تخرجوا منها فرارا منه ) ، أما خروج الإنسان منها لا فرارا منه ولكن لأنه أتى إلى هذا البلد لحاجة ثم انقضت حاجته وأراد أن يرجع إلى بلده فلا بأس، ويأتي إن شاء الله الكلام على قصة عمر بن الخطاب رضي الله عنه، وما فيها من الفوائد والفقه إن شاء الله تعالى، والله أعلم.
في الكلام على هذا الحديث الذي رواه عبد الله بن عباس رضي الله عنهما : أنه كان مع عمر حين خرج إلى الشام ، وذلك والله أعلم لفتح بيت المقدس ، فلما كان في أثناء الطريق أتاه أمراء الأجناد يخبرونه بأنه وقع في الشام طاعون : والطاعون والعياذ بالله وباء فتاك سريع الانتشار ، فتوقف عمر وأمر عبد الله بن عباس رضي الله عنهما أن يدعو له المهاجرين ، فدعاهم وشاورهم فاختلفوا فمنهم من قال : لا ترجع عما أتيت إليه ، ومنهم من قال : ارجع ، ثم قال: ارتفعوا عني ، ثم أمر عبد الله بن عباس أن يجمع الأنصار فجمعهم واختلفوا كاختلاف المهاجرين ، ثم قال: ارتفعوا عني ، ثم أمره أن يدعو مشيخة مهاجرة الفتح : يعني كبار المهاجرين فدعاهم فلم يختلف عليه اثنان وقالوا ارجع ، فنادى في الناس إني مصبح على ظهر : يعني راجع ، فقال أبو عبيدة عامر بن الجراح رضي الله عنه ، ( الذي سماه النبي صلى الله عليه وسلم أمين هذه الأمة ) قال : يا أمير المؤمنين أفرارا من قدر الله؟ يعني ترجع بالناس تفر من قدر الله ، قال : لو غيرك قالها يا أبا عبيدة وكان يكره مخالفته : يعني لو أن غيرك قالها لكان أهون أما أنت فكيف تقول هذا ؟! .
ثم ضرب له مثلاً مقنعا قال: أرأيت لو كان لك إبل فهبطت بها وادياً له عدوتان يعني : شعبتين إحداهما مخصبة والثانية مجدبة ، فإن رعيتها في المخصبة رعيتها بقدر الله ، وإن رعيتها في المجدبة رعيتها بقدر الله ، ومعلوم أنك سوف تختار المخصبة على المجدبة يعني فهذا مثله.
فبينما هم كذلك إذ جاء عبد الرحمن بن عوف رضي الله عنه وكان قد تغيب في حاجة له فقال : إن عندي من ذلك علما يعني عن النبي صلى الله عليه وسلم ثم تلا عليهم الحديث : ( إذا سمعتم به في أرض فلا تقدموا عليه وإذا وقع وأنتم فيها فلا تخرجوا فرارا منه ) : فوافق هذا حكم النبي صلى الله عليه وسلم فحمد اللهَ عمرُ رضي الله عنه على موافقت الصواب .
ففي هذا الحديث فوائد منها :
أن الخليفة يتولى الغزو بنفسه إذا دعت الحاجة إلى ذلك .
ومنها : حسن سياسة أمير المؤمنين عمر رضي الله عنه ، فإنه على ما عنده من الدين والعلم والعقل وإصابة الصواب لم يبت في هذا الأمر إلا بعد المشاورة والمراجعة .
ومنها : أنه ينبغي أن يبدأ بالأفضل فالأفضل في المشاورة ، الأفضل في علمه وفي رأيه وفي نصحه ، يبدأ بالأفضل فالأفضل ، فإذا أُشير عليه انتهى الموضوع ما حاجة أن يأتي بالآخرين ، وإلا أتى بالآخرين الذين دونهم .
ومنها : أن المشاورة من سمات المؤمنين كما قال الله تبارك وتعالى : (( وأمرهم شورى بينهم )) ، فينبغي لمن ولاه الله أمراً وتردد في شيء من الأشياء ولم يتبين له الصواب أن يشاور غيره من ذوي العقل والدين والتجربة ، وكذلك إذا كان الأمر عاماً يعم الناس كلهم ، فإنه ينبغي أن يشاور حتى يصدر عن رأي الجميع .
ومنها : أنه يجوز للواحد من الرعية أن يراجع الإمام لكن بحضرته ، لأن أبا عبيدة راجع عمر بن الخطاب رضي الله عنه لكن بحضرته ، وبشرط أن يكون المراجِع ممن له علم ودين وعقل ، ليس ممن عنده غيرة عاصفة وعاطفة هوجاء ، فإن هذا لا يتكلم ، إنما يتكلم العقلاء ، هم الذين يتكلمون مع ولاة الأمور ، ولكن لا يتكلمون من وراء ولي الأمر بل يتكلمون من بين يديه حتى يحصل النقاش والإقناع .
ومنها : ضرب الأمثال ، فإن ضرب الأمثال يقرب المعاني للإنسان ، وذلك أن عمر رضي الله عنه ضرب مثلا لأبي عبيدة : إنسان هبط واديا ومعه إبل وله شعبتان : إحداهما مخصبة فيها الأشجار وفيها الحشيش وفيها كل شيء ينفع الإبل . والثانية : مجدبة بيضاء ، فمن المعلوم أن الإنسان لن يختار المجدبة سوف يختار المخصبة ، فاختياره للمخصبة بقدر الله عز وجل وعدوله عن المجدبة بقدر الله عز وجل .
ومنها : الرد على القدرية المعتزلة الذين يقولون إن الإنسان مستقل بعمله ، لا علاقة لله به والعياذ بالله ، ولهذا سموا مجوس هذه الأمة ، لأنهم يشبهون المجوس ، ولكن الإنسان يفعل الفعل بقدر الله عز وجل .
ومنها : أنه قد يخفى العلم الشرعي على كبراء الناس ، ويعلمه من دونهم ، فإنه لا شك أن عمر بن الخطاب رضي الله عنه أعلم بكثير من عبد الرحمن بن عوف ، وكذلك كثير ممن معه عندهم من العلم ما ليس عند عبد الرحمن بن عوف ، لكن قد يكون عند الصغير من العلم ما ليس عند الكبير كما حصل هذا .
ومنها : حكمة النبي صلى الله عليه وسلم في أن الإنسان لا يقدم على ما فيه الهلكة والضرر ، لأن الله تعالى قال : (( ولا تقتلوا أنفسكم )) وقال : (( ولا تلقوا بأيديكم إلى التهلكة )) ، فلا يجوز للإنسان أن يخاطر في أمر يخشى منه الهلاك ، وإن كان كل شيء بقدر لكن الأسباب لها أثرها .
ومنها : أنه إذا وقع الوباء في الأرض فإنه لا يجوز للإنسان أن يخرج منها فرارا منه وأما إذا خرج لحاجة فلا بأس .
ومنها : أنه لا بأس أن يستعمل الإنسان من الأدوية والحبوب والإبر ما يمنع الوباء ، لأن ذلك من الوقاية قبل نزول البلاء ، ولا بأس بها ، كما أن الإنسان إذا نزل به الوباء وعالجه فلا حرج عليه ، فكذلك إذا أخذ وقاية منه فلا حرج عليه ، ولا يعد هذا من نقص التوكل ، بل هذا من التوكل ، لأن فعل الأسباب الواقية من الهلاك والعذاب أمر مطلوب ، والذي يتوكل أو يدعي أنه متوكل ولا يفعل الأسباب ليس بمتوكل حقيقة ، بل إنه طاعن في حكمة الله عز وجل ، لأن حكمة الله تأبى أن يكون الشيء إلا بالسبب الذي قدره الله تعالى له، والله الموفق.