تتمة شرح حديث عن ابن مسعود رضي الله عنه قال: قال النبي صلى الله عليه وسلم: ( أول ما يقضى بين الناس يوم القيامة في الدماء ). متفق عليه. وعن عائشة رضي الله عنها قالت: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: ( خلقت الملائكة من نور، وخلق الجان من مارج من نار، وخلق آدم مما وصف لكم ). رواه مسلم. وعنها رضي الله عنها قالت: كان خلق نبي الله صلى الله عليه وسلم القرآن. رواه مسلم في جملة حديث طويل. وعنها قالت: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: ( من أحب لقاء الله أحب الله لقاءه، ومن كره لقاء الله كره الله لقاءه ) فقلت: يا رسول الله، أكراهية الموت ؟ فكلنا نكره الموت ؟ قال: ( ليس كذلك، ولكن المؤمن إذا بشر برحمة الله ورضوانه وجنته أحب لقاء الله، فأحب الله لقاءه. وإن الكافر إذا بشر بعذاب الله وسخطه، كره لقاء الله، وكره الله لقاءه ). رواه مسلم. حفظ
الشيخ : فأول ما يحاسب عليه العبد من حقوق الله الصلاة ، أول ما يحاسب عليه الصلاة ، فإن كان قد أحسنها فقد أفلح وأنجح ، وإن كان قد ضيعها فهو لما سواها أضيع ، لأن مَن ضيع الصلاة فلا آمرَ له بالمعروف ولا ناهي له عن منكر ، كما قال تعالى : (( اتل ما أوحي إليك من الكتاب وأقم الصلاة إن الصلاة تنهى عن الفحشاء والمنكر )) .
أما فيما بين العباد فأول ما يُقضى بينهم في الدماء : القتل هذا أول شيء ، ثم الأموال والأعراض ، والقتل تارة يكون بحق وتارة يكون بغير حق ، والمقصود بذلك القتل بغير حق ، فهذا هو أول ما يُقضى فيه بين الناس يوم القيامة .
وفي هذا الحديث إثبات القضاء يوم القيامة وأنه حق ، وأنه لابد أن يُعطى كل مظلوم مظلِمته .
لكن هاهنا مسألة ترد : يأتي إنسان إلى شخص يكون قد ظلمه بغيبة أو قذف أو ما أشبه ذلك ثم يطلب منه السماح بعد أن تاب إلى الله وندم ، فيقول لصاحب الحق : اسمح لي أنا مذنب وأنا الآن أستغفر الله وأتوب إليه اسمح لي ويعتذر ، ولكن صاحب الحق لا يقبل ، يقول : لا ما أسمح ، أنا أريد حقي يوم القيامة ، فهنا نقول : إذا علم الله من العبد صحة التوبة فإن الله تعالى يتحمل عنه حق هذا الآدمي الذي أبى أن يسامحه .
ومثل ذلك أيضا المال : لو أن إنساناً كان بينك وبينه مشاجرة وجحدت ماله ، وكان في ذمتك له مال لكنك جحدته ثم بعد ذلك تبت إلى الله وأقررت به وذهبت إليه وقلت : يا فلان أنا جحدتك حقك في الأول ، والآن أنا تائب إلى الله ونادم خذ دراهمك ، قال : أبداً ما آخذها يني وبينك يوم القيامة ولا أخذها ، فهنا نقول : إذا علم الله من نيتك أنك صادق في التوبة فإن الله يتحمل عنك الإثم يعني يرضي صاحبك ، لكن تصدق بهذه الدراهم عنه، حتى تبرأ ذمتك منها ، فمثلا إذا كان حقه مائة ريال ، وجئت إليه بعد أن ندمت واستغفرت وقلت : خذ هذه دراهمك مائة ريال قال : لا ، أريدها من عملك الصالح يوم القيامة وأبى ، فحينئذٍ نقول : إذا علم الله من نيتك أنك صادق فإنك لا تأثم ويزول عنك الإثم ، لكن هذه المائة تصدق بها لصاحبها تخلصا منها.
أما الحديث الثاني : فحديث عائشة رضي الله عنها : أن النبي صلى الله عليه وسلم أخبر عن بدء الخلق ، فذكر صلى الله عليه وسلم أن الملائكة خُلقوا من النور : ولذلك كانوا كلهم خيراً لا يعصون الله ولا يستكبرون عن عبادته ولا يستحسرون ، (( يسبحون الليل والنهار لا يفترون )) : فالملائكة خلقوا من نور .
أما الشياطين الجن فقال إنهم خلقوا من نار ، وفي هذا دليل على أن الجن هم ذرية الشيطان الأكبر الذي أبى أن يسجد لآدم وقال : (( أنا خير منه خلقتني من نار وخلقته من طين )) ، فالجن كلهم مخلوقون من النار ، ولذلك فيهم الطيش والعبث والعدوان على كل من يستطيعون العدوان عليه ، لكن اقرأ آية الكرسي في ليلة : ( فلا يزال عليك من الله حافظ ولا يقربك الشيطان حتى تصبح ) .
( وخلق آدم مما ذكر لكم ) : يعني خلق من طين من تراب من صلصال كالفخار ، لأن التراب صار طينا ثم صار فخاراً فخلق منه آدم عليه الصلاة والسلام ، ولهذا قال الله تعالى : (( منها خلقناكم وفيها نعيدكم ومنها نخرجكم تارة أخرى )) .
وحديثها الثاني رضي الله عنها قالت : ( كان خلق النبي صلى الله عليه وسلم القرآن ) : يعني أنه يتخلق بأخلاق القرآن ، ما أمر به القرآن قام به ، وما نهى عنه القرآن اجتنبه ، سواء كان ذلك في عبادات الله أو في معاملة عباد الله فخلق النبي عليه الصلاة والسلام القرآن .
وفي هذا إشارة مِن أم المؤمنين عائشة رضي الله عنها : أننا إذا أردنا أن نتخلق بأخلاق الرسول عليه الصلاة والسلام فعلينا أن نتخلق بالقرآن ، لأن هذا هو أخلاق الرسول عليه الصلاة والسلام ، نعم .
حديثها الثالث رضي الله عنها : أن النبي صلى الله عليه وسلم قال : ( من أحب لقاء الله أحب الله لقاءه ، ومن كره لقاء الله كره الله لقاءه ، فقالت عائشة رضي الله عنها أكراهية الموت يا رسول الله؟ فكلنا يكره الموت ؟ قال ليس كذلك ) : فأخبر النبي عليه الصلاة والسلام أن الإنسان إذا أحب لقاء الله أحب الله لقاءه ، وذلك أن المؤمن يؤمن بما أعد الله للمؤمنين في الجنة والثواب الجزيل والعطاء العميم الواسع فيحب ذلك وترخص عليه الدنيا ، ولا يهتم بها ، لأنه سوف ينتقل إلى خير منها ، فحينئذ يحب لقاء الله ، ولاسيما عند الموت إذا بشر بالرضوان والرحمة فإنه يحب لقاء الله عز وجل ويتشوق إليه فيحب الله لقاءه .
أما الكافر والعياذ بالله فإنه إذا بُشر بعذاب الله وسخطه كره لقاء الله ، فكره الله لقاءه ، ولهذا جاء في حديث المحتَضر : أن نفس الكافر إذا بشرت بالغضب والسخط تفرقت في جسده وأبت أن تخرج ، ولهذا تُنزع النفس ، روح الكافر من جسده كما ينزع الشعر من السُّفود المبلول : بمعنى أنه يكره على أن تخرج روحه ، وذلك لأنه يبشر والعياذ بالله بالشر ، ولهذا قال الله تعالى : (( ولو ترى إذ الظالمون في غمرات الموت والملائكة باسطوا أيديهم أخرجوا أنفسكم )) : فهم شحيحون فيها والعياذ بالله ، شحيحون بأنفسهم لا يريدون أن تخرج ، ولكن الملائكة تقول : أخرجوا أنفسكم ، فإذا بُشّرت تفرقت في الجسد فينتزعها الملائكة كما ينتزع السَّفود من الصوف المبلول والعياذ بالله حتى تخرج .
المهم أن المؤمن يحب لقاء الله ، لأنه يحب الله عز وجل يحب ثوابه يحب جنته يحب النعيم ، فهو يحب لقاء الله ولاسيما عند الموت فيحب الله لقاءه ، اللهم اجعلنا ممن يحب لقاءك يا رب العالمين ، وأحسن لنا الختام إنك على كل شيء قدير .