تعليق الشيخ على قول شيخ الإسلام ابن تيمية : " وهكذا القول في المثل الثاني : وهو أن الروح التي فينا , فإنها قد وصفت بصفات ثبوتية وسلبية , وقد أخبرت النصوص أنها تعرج وتصعد من سماء إلى سماء , وأنها تقبض من البدن وتسل منه كما تسل الشعرة من العجينة , والناس مضطربون فيها ; فمنهم طوائف من أهل الكلام يجعلونها جزءا من البدن أو صفة من صفاته , كقول بعضهم أنها النفس أو الريح التي تردد في البدن , وقول بعضهم : إنها الحياة أو المزاج أو نفس البدن , ومنهم طوائف من أهل الفلسفة يصفونها بما يصفون به واجب الوجود عندهم , وهي أمور لا يتصف بها إلا ممتنع الوجود , فيقولون : لا هي داخلة في البدن ولا خارجة ولا مباينة له ولا مداخلة له ولا متحركة ولا ساكنة ولا تصعد ولا تهبط ولا هي جسم ولا عرض , وقد يقولون : أنها لا تدرك الأمور المعينة والحقائق الموجودة في الخارج وإنما تدرك الأمور الكلية المطلقة , وقد يقولون : أنها لا داخل العالم ولا خارجه ولا مباينة له ولا مداخلة , وربما قالوا ليست داخلة في أجسام العالم ولا خارجة عنها , مع تفسيرهم للجسم بما لا يقبل الإشارة الحسية , فيصفونها بأنها لا يمكن الإشارة إليها ونحو ذلك من الصفات السلبية التي تلحقها بالمعدوم والممتنع , وإذا قيل لهم : إثبات مثل هذا ممتنع في ضرورة العقل , قالوا : بل هذا ممكن بدليل أن الكليات ممكنة موجودة وهي غير مشار إليها , وقد غفلوا عن كون الكليات لا توجد كلية إلا في الأذهان لا في الأعيان ; فيعتمدون فيما يقولونه في المبدأ والمعاد على مثل هذا الخيال الذي لا يخفى فساده على غالب الجهال ". حفظ
الشيخ : " وَهَكَذَا الْقَوْلُ فِي الْمَثَلِ الثَّانِي . وَهُوَ أَنَّ الرُّوحَ الَّتِي فِينَا فَإِنَّهَا قَدْ وُصِفَتْ بِصِفَاتِ ثُبُوتِيَّةٍ وَسَلْبِيَّةٍ وَقَدْ أَخْبَرَتْ النُّصُوصُ أَنَّهَا تَعْرُجُ وَتَصْعَدُ مِنْ سَمَاءٍ إلَى سَمَاءٍ ، وَأَنَّهَا تُقْبَضُ مِنْ الْبَدَنِ ، وَتُسَلُّ مِنْهُ كَمَا تُسَلُّ الشَّعْرَةُ مِنْ الْعَجِينَةِ " وهذا معروف في الكتاب والسنة " وَالنَّاسُ مُضْطَرِبُونَ فِيهَا " مع أن الروح بعيدة عنك أو لا .؟ الروح في جسمك ، ومع ذلك اضطرب الناس فيها الاضطرلاب الذي سيذكره المؤلف ، وهي موجودة في الإنسان ، واضطربوا فيها هذا الاضطراب لأنهم حقيقة لا يشاهدون نظيرها ، فليس في الشاهد ما يشبه تلك الروح ، ولهذا اضطرب فيها النظار من المتكلمين وغيرهم.
" فَمِنْهُمْ طَوَائِفُ مِنْ أَهْلِ الْكَلَامِ يَجْعَلُونَهَا جُزْءًا مِنْ الْبَدَنِ أَوْ صِفَةً مِنْ صِفَاتِهِ كَقَوْلِ بَعْضِهِمْ : أَنَّهَا النَّفْسُ أَوْ الرِّيحُ الَّتِي تردد فِي الْبَدَنِ وَقَوْلِ بَعْضِهِمْ : إنَّهَا الْحَيَاةُ أَوْ الْمِزَاجُ أَوْ نَفْسُ الْبَدَنِ " يعني إما جزء أو صفة في البدن " وَمِنْهُمْ طَوَائِفُ مِنْ أَهْلِ الْفَلْسَفَةِ يَصِفُونَهَا بِمَا يَصِفُونَ بِهِ وَاجِبَ الْوُجُودِ عِنْدَهُمْ " وواجب الوجود عندهم عرفنا نصه فيما سبق أنهم يقولون لا موجود ولا معدوم ، ولا عالم ولا جاهل ، ولا حي ولا ميت ، ولا عاجز ولا قادر ، إلى آخره .
" وَهِيَ أُمُورٌ لَا يَتَّصِفُ بِهَا إلَّا مُمْتَنِعُ الْوُجُودِ فَيَقُولُونَ : لَا هِيَ دَاخِلَةٌ فِي الْبَدَنِ وَلَا خَارِجَةٌ وَلَا مُبَايِنَةٌ لَهُ وَلَا مُدَاخِلَةٌ لَهُ وَلَا مُتَحَرِّكَةٌ وَلَا سَاكِنَةٌ وَلَا تَصْعَدُ وَلَا تَهْبِطُ ، وَلَا هِيَ جِسْمٌ وَلَا عَرَضٌ "
هذه الأوصاف السلبية كلها تدل على أنها أمر لا وجود له ، يعني لو قيل لك صف العدم ما وجدت أحسن من هذا الوصف ، لا هي داخل البدن ولا خارجه ، ولا مباين ولا مداخل ولا متحرك ولا ساكن ، يعني سلب للنقيضين .
" وَقَدْ يَقُولُونَ : أَنَّهَا لَا تُدْرِكُ الْأُمُورَ الْمُعَيَّنَةَ وَالْحَقَائِقَ الْمَوْجُودَةَ فِي الْخَارِجِ وَإِنَّمَا تُدْرِكُ الْأُمُورَ الْكُلِّيَّةَ الْمُطْلَقَةَ " وهذا أيضاً خطأ ، فلولا وجود النفس في البدن ما أدرك شيئاً ، والإنسان يدرك الأمور الكلية والأمور الجزئية كما هو معروف .
" وَقَدْ يَقُولُونَ : إنَّهَا لَا دَاخِلَ الْعَالَمِ وَلَا خَارِجَهُ وَلَا مُبَايِنَةً لَهُ وَلَا مُدَاخِلَةً وَرُبَّمَا قَالُوا لَيْسَتْ دَاخِلَةً فِي أَجْسَامِ الْعَالَمِ وَلَا خَارِجَةً عَنْهَا " كيف .؟ لا هي داخلة عنها ولا خارجة عنها !!. نعم
" مَعَ تَفْسِيرِهِمْ لِلْجِسْمِ بِمَا لَا يَقْبَلُ الْإِشَارَةَ الْحِسِّيَّةَ فَيَصِفُونَهَا بِأَنَّهَا لَا يُمْكِنُ الْإِشَارَةُ إلَيْهَا وَنَحْوَ ذَلِكَ مِنْ الصِّفَاتِ السَّلْبِيَّةِ الَّتِي تُلْحِقُهَا بِالْمَعْدُومِ وَالْمُمْتَنِعِ " والسبب في هذا الاضطراب هو أنهم لا يشاهدون لها نظيرا في الخارج ، ولا يؤمنون بما جاءت به النصوص ، والإنسان الذي ليس عنده دليل عقلي ولا نقلي ولا حسي ، ماذا يصنع .؟ على كل حال يرتبكما يستطيع أن يثبت على قول .
" وَإِذَا قِيلَ لَهُمْ : إثْبَاتُ مِثْلِ هَذَا مُمْتَنِعٌ فِي ضَرُورَةِ الْعَقْلِ قَالُوا : بَلْ هَذَا مُمْكِنٌ بِدَلِيلِ أَنَّ الْكُلِّيَّاتِ مُمْكِنَةٌ مَوْجُودَةٌ وَهِيَ غَيْرُ مُشَارٍ إلَيْهَا " .
يريد بالكليات المعاني العامة ، كما نقول مثلا الإنسان ، الإنسان يتصور أن هناك إنسانية مطلقة يشترك فيها كل فرد من الناس ، يتصور أنه يوجد كلية مطلقة عامة هي الإنسانية ، يشترك فيها فلان وفلان وفلان وفلان ، لكن هل حقيقة أن هذه الكلية المطلقة حقيقة أنها موجودة ، هل نجد إنسانية شيء مشاهد .؟ لا ليس مشاهد ، ولهذا يقول المؤلف : " بَلْ هَذَا مُمْكِنٌ بِدَلِيلِ أَنَّ الْكُلِّيَّاتِ مُمْكِنَةٌ مَوْجُودَةٌ وَهِيَ غَيْرُ مُشَارٍ إلَيْهَا " بينت لكم مثلا في الكليات ، قلنا أنا إنسان وأنت إنسان ، وهذا إنسان وذاك إنسان ، يتصور أو يتخيل الإنسان أن هناك كلية عامة مطلقة تسمى الإنسانية ، اشتركنا فيها ، هذه الإنسانية التي نصورنا وأننا مشتركون فيها هل يشار إليها .؟ لا يشار إليها لأنها غير موجودة .
كذلك الحيوان ، الإنسان حيوان والبعير حيوان ، والفرس حيوان والحمار حيوان وهكذا ، يتصور الإنسان أن هناك حيوانية مطلقة عامة ، لكن هذا التصور حقيقة أو لا .؟ لا ، وين الحيوانية التي نحن مشتركون فيها .؟ وي اللي ساكن بالرياض بمكة أمريكا .؟ غير موجودة .
ولهذا يقولون : إننا نقول الروح لا داخل العالم ولا خارجه ولا يمكن الإشارة إليها ، وأن هذا شيء ممكن ، وش حجتهم .؟ بدليل أن الكليات ممكنة موجودة ، هذه حجتهم ، يقولون مثل أن الكليات ممكنة موجودة ، أنا أقول هذا الرجل وهذا الرجل وهذا الرجل كلهم اشتركوا في الرجولية ، ومع ذلك فالرجولية غير موجودة ، بمعنى أن هذا الشيء الوصف الذي اشتركنا فيه ليس موجودا يشار إليه .
طيب يقول : " وَقَدْ غَفَلُوا عَنْ كَوْنِ الْكُلِّيَّاتِ لَا تُوجَدُ كُلِّيَّةً إلَّا فِي الْأَذْهَانِ لَا فِي الْعِيَانِ " صحيح ، الكليات هذه لا توجد إلا في الأذهان ، الذهن هو الذي يفرض أن هناك كلية عامة اشتركنا فيها ، لكن حقيقة غير موجودة في الأعيان ولا نعاينها بأعيننا .
" فَيَعْتَمِدُونَ فِيمَا يَقُولُونَهُ فِي الْمَبْدَأِ وَالْمُعَادِ عَلَى مِثْلِ هَذَا الْخَيَالِ الَّذِي لَا يَخْفَى فَسَادُهُ عَلَى غَالِبِ الْجُهَّالِ " ... كون الإنسان كلما توهم شيئاً أو تخيل شيئا أثبت أنه حقيقة ، هذا غير ممكن ، ولا يمكن أن يأتي من أي عاقل ، لأنك يمكن الآن أن تتصور مثلاً جسما رأسه رأس إنسان ، ويده يد طير ، ورجله رجل بعير ، وبطنه حجر ، وظهره أنبوبة ماء ، فيمكن أن نتصور ذلك ، لكن هل يوجد هذا في الخارج ؟ لا يوجد هذا في الخارج ، فليس كل ما فرضه الذهن أو تصوره يمكن أن يقع ، فالآن نحن نتصور أن هناك حيوانية مطلقة يشترك فيها جميع الحيوان ، لكنّ حقيقة الأمر لا وجود لها ، هكذا هم إذا وصفوا الروح بهذه الأوصاف ، قالوا يمكن أن يكون الشيء لا داخل العالم ولا خارجه ، والروح ليست داخل الأجسام ولا خارج منها ، يمكن يصير هذا ، وش نقول لهم .؟ هذا إنما هو في الذهن ، شيء يفرضه الذهن ، أما وجود هذا في الخارج فأمر غير ممكن ، وليس كل ما فرض في الذهن يمكن أن يكون موجودا ، أليس كذلك .؟ ربما يفرض ذهنك أن مع الله إله آخر ، أليس كذلك .؟ وهذا غاية الممتنع (( لو كان فيهما آلهة إلا الله لفسدتا )) .
فالحاصل يجب أن تعرفوا أن بلاء الفلاسفة بلاءهم من أنهم ظنوا أن المتصورات أمور واقعة و وغفلوا عن الشيء الذي يفرضه الذهن والشيء الذي يكون حقيقة ، فالشيء الذي يفرضه الذهن لا يمكن أن يكون حقيقة ، ليس كل ما فرضه الذهن يكون حقيقة ، الذهن يفرض أشياء ممكنة ، ويفرض أشياء ممتنعة ، ربما يفرض ذهنك أنك تسببت وفتحت دكانا ، وبدأت تبيع وتشتري ، وصرت غنيا ، يمكن يكون له وجودا هذا أو لا يمكن .؟ يمكن أن يكون له وجودا ، لكن فرض جسم على ما وصفنا قبل قليل هذا لا يمكن أن يكون له وجودا ، فيتبين من هذا أن فرض الأذهان لا يجوز أن يحكم عليه حكم الأعياد ، لأن فرض الأذهان قد يكون ممكناً ، وقد يكون ممتنعاً غاية الممتنعات ، وقد يكون أيضاً واجباً .
قد يكون واجبا مثل ما لو تصورت أن كل محدثة لابد له من محدث، هذا التصور حقيقة وواجب ، ولهذا الأعرابي ، وهو الأعرابي كما تعرفون البعيد عن الثقافة والعلم ، سئل بم عرفت ربك فقال الأعرابي _ ببديهته _ الأثر يدل على المسير ، لأنه هو متعود الجواد والأثر ، والبعرة تدل على البعير ، من بيئته استدل ، فسماء ذات أبراج وأرض ذات فجاج وبحار ذات أمواج ، ألا تدل على السميع البصير ؟
بلى ، فأقول إن الذهن يفرض أشياء واجبة وأشياء ممكنة وأشياء ممتنعة .