تعليق الشيخ على قول شيخ الإسلام ابن تيمية : " وقد تقدم أن نفي ما ينفى عنه - سبحانه - النفي المتضمن للإثبات إذ مجرد النفي لا مدح فيه ولا كمال فإن المعدوم يوصف بالنفي والمعدوم لا يشبه الموجودات وليس هذا مدحا له لأن مشابهة الناقص في صفات النقص نقص مطلقا كما أن مماثلة المخلوق في شيء من الصفات تمثيل وتشبيه ينزه عنه الرب تبارك وتعالى والنقص ضد الكمال ; وذلك مثل أنه قد علم أنه حي والموت ضد ذلك فهو منزه عنه ; وكذلك النوم والسنة ضد كمال الحياة فإن النوم أخو الموت وكذلك اللغوب نقص في القدرة والقوة والأكل والشرب ونحو ذلك من الأمور فيه افتقار إلى موجود غيره كما أن الاستعانة بالغير والاعتضاد به ونحو ذلك تتضمن الافتقار إليه والاحتياج إليه . وكل من يحتاج إلى من يحمله أو يعينه على قيام ذاته وأفعاله فهو مفتقر إليه ليس مستغنيا عنه بنفسه فكيف من يأكل ويشرب والآكل والشارب أجوف والمصمت الصمد أكمل من الآكل والشارب ولهذا كانت الملائكة صمدا لا تأكل ولا تشرب وقد تقدم أن كل كمال ثبت لمخلوق فالخالق أولى به وكل نقص تنزه عنه المخلوق فالخالق أولى بتنزيهه عن ذلك . والسمع قد نفى ذلك في غير موضع كقوله تعالى : (( الله الصمد )) والصمد الذي لا جوف له ولا يأكل ولا يشرب وهذه السورة هي نسب الرحمن أو هي الأصل في هذا الباب وقال في حق المسيح وأمه : (( ما المسيح ابن مريم إلا رسول قد خلت من قبله الرسل وأمه صديقة كانا يأكلان الطعام )) فجعل ذلك دليلا على نفي الألوهية فدل ذلك على تنزيهه عن ذلك بطريق الأولى والأحرى والكبد والطحال ونحو ذلك : هي أعضاء الأكل والشرب فالغني المنزه عن ذلك : منزه عن آلات ذلك بخلاف اليد فإنها للعمل والفعل وهو سبحانه موصوف بالعمل والفعل ; إذ ذاك من صفات الكمال ; فمن يقدر أن يفعل أكمل ممن لا يقدر على الفعل .". حفظ
الشيخ : " وَقَدْ تَقَدَّمَ أَنَّ نفي مَا يُنْفَى عَنْهُ - سُبْحَانَهُ - نَّفْي مُتَضَمِّن للنفي والإِثْبَاتِ إذْ مُجَرَّدُ النَّفْيِ لَا مَدْحَ فِيهِ وَلَا كَمَالَ "
هذا تقدم لنا أيضا ، أن النفي ـ ما نفاه الله عن نفسه ـ فهو نفي متضمن للإثبات ، لأن مجرد النفي ليس مدحاً ، وقد قلنا فيما سبق إن النفي قد يكون لكون الشيء غير قابل له، كما لو قلت : الجدار لا يظلم ، وقد يكون النفي لضعف في المنفي عنه ، مثل قول الشاعر :
" قبيلة لا يغدرون بذمة *** ولا يظلمون الناس حبة خردل "
فتجد أن نفي الغدر ونفي الظالم هنا مدح أو ذم .؟ ذم .
فإذا النفي المجرد ليس مدحاً ، والله سبحانه وتعالى ليس له من الصفات إلا الكاملة ، وما ليس مدحاً فليس بكمال ، وعلى هذا فلا يمكن أن يكون في صفات الله نفي مجرد ، ما يمكن أن يكون في صفات الله نفي مجرد .
عندما نقول : (( وَلَا يَظْلِمُ رَبُّكَ أَحَداً )) عندما نقرأ هذه الآية لماذا .؟
الطالب : لكمال عدله .
الشيخ : يجب أن نقول لكمال العدل . لا لأنه عاجر عن الظالم ، ولا لأنه غير قادر له . أليس كذلك ، فتبين لنا أنه لا يوجد في صفات الله نفي مجرد ، والمؤلف علله هنا وعلله سابقا ، بأن مجرد النفي لا مدح فيه ولا كمال ، مجرد النفي هكذا ما يدل على كمال ولا هو مدح أيضا .
" فَإِنَّ الْمَعْدُومَ يُوصَفُ بِالنَّفْيِ ، وَالْمَعْدُومَ لَا يُشْبِهُ الْمَوْجُودَاتِ وَلَيْسَ هَذَا مَدْحًا لَهُ لِأَنَّ مُشَابَهَةَ النَّاقِصِ فِي صِفَاتِ النَّقْصِ نَقْصٌ مُطْلَقًا ، كَمَا أَنَّ مُمَاثَلَةَ الْمَخْلُوقِ فِي شَيْءٍ مِنْ الصِّفَاتِ تَمْثِيلٌ وَتَشْبِيهٌ يُنَزَّهُ عَنْهُ الرَّبُّ تَبَارَكَ وَتَعَالَى ". أرجو أنه فهمنا الآن .
فهمنا من كلام المؤلف أن الله تعالى لا يوجد في صفاته نفي مجرد حتى يكون هذا النفي متضمناً للكمال ، وذلك لأن النفي المجرد ليس فيه مدح وليس فيه كمال كما سبقت الإشارة إليه .
قال : " وَالنَّقْصُ ضِدُّ الْكَمَالِ ، وَذَلِكَ مِثْلُ أَنَّهُ قَدْ عُلِمَ أَنَّهُ حَيٌّ وَالْمَوْتُ ضِدُّ ذَلِكَ فَهُوَ مُنَزَّهٌ عَنْهُ ، وَكَذَلِكَ النَّوْمُ وَالسِّنَةُ ضِدَّ كَمَالِ الْحَيَاةِ فَإِنَّ النَّوْمَ أَخُو الْمَوْتِ وَكَذَلِكَ اللُّغُوبُ نَقْصٌ فِي الْقُدْرَةِ وَالْقُوَّةِ ، وَالْأَكْلُ وَالشُّرْبُ وَنَحْوُ ذَلِكَ مِنْ الْأُمُورِ فِيهِ افْتِقَارٌ إلَى مَوْجُودٍ غَيْرِهِ ، كَمَا أَنَّ الِاسْتِعَانَةَ بِالْغَيْرِ وَالِاعْتِضَادَ بِهِ وَنَحْوَ ذَلِكَ تَتَضَمَّنُ الِافْتِقَارَ إلَيْهِ وَالِاحْتِيَاجَ إلَيْهِ ". وقد قال الله تبارك وتعالى : (( قل ادعوا الذين زعمتم من دون الله لا يملكون مثقال ذرة في السماوات ولا في الأرض وما لهم فيهما من شرك وما له منهم من ظهير )) .
من ظهير يعين معين . وذلك لأنه مستغن عن غيره فلا يحتاج إلى معين ولا إلى شريك ولا إلى أحد يساعد على خلقه .
" وَكُلُّ مَنْ يَحْتَاجُ إلَى مَنْ يَحْمِلُهُ أَوْ يُعِينُهُ عَلَى قِيَامِ ذَاتِهِ وَأَفْعَالِهِ فَهُوَ مُفْتَقِرٌ إلَيْهِ لَيْسَ مُسْتَغْنِيًا عَنْهُ بِنَفْسِهِ ، فَكَيْفَ مَنْ يَأْكُلُ وَيَشْرَبُ وَالْآكِلُ وَالشَّارِبُ أَجْوَفُ ، وَالْمُصْمَتُ الصَّمَدُ أَكْمَلُ مِنْ الْآكِلِ وَالشَّارِبِ ، وَلِهَذَا كَانَتْ الْمَلَائِكَةُ صمدا لَا تَأْكُلُ وَلَا تَشْرَبُ ، وَقَدْ تَقَدَّمَ أَنَّ كُلَّ كَمَالٍ ثَبَتَ لِمَخْلُوقِ فَالْخَالِقُ أَوْلَى بِهِ ، وَكُلُّ نَقْصٍ تَنَزَّهَ عَنْهُ الْمَخْلُوقُ فَالْخَالِقُ أَوْلَى بِتَنْزِيهِهِ عَنْ ذَلِكَ " شف: وَكُلُّ نَقْصٍ ينَزَّهَ عَنْهُ الْمَخْلُوقُ ، ما قال : كل ما يجب أن ينزه عنه مخلوق، لأنه مر علينا أن من صفات الله ما لا يجوز للمخلوق أن يتصف به مثل المتكبر .
" وَالسَّمْعُ قَدْ نَفَى ذَلِكَ فِي غَيْرِ مَوْضِعٍ كَقَوْلِهِ تَعَالَى : (( اللَّهُ الصَّمَدُ )) وَالصَّمَدُ الَّذِي لَا جَوْفَ لَهُ وَلَا يَأْكُلُ وَلَا يَشْرَبُ وَهَذِهِ السُّورَةُ هِيَ نَسَبُ الرَّحْمَنِ أَوْ هِيَ الْأَصْلُ فِي هَذَا الْبَابِ ".
هي نسب الرحمن ، لأن المشركين قالوا : يا محمد انسب لنا ربك ، من أين هو من أي قبيلة من أي ناس .؟ فأنزل الله سبحانه وتعالى : (( قُلْ هُوَ اللَّهُ أَحَدٌ * اللَّهُ الصَّمَدُ * لَمْ يَلِدْ وَلَمْ يُولَدْ * وَلَمْ يَكُن لَّهُ كُفُواً أَحَدٌ )) .
" وَقَالَ فِي حَقِّ الْمَسِيحِ وَأُمِّهِ : (( مَا الْمَسِيحُ ابْنُ مَرْيَمَ إلَّا رَسُولٌ قَدْ خَلَتْ مِنْ قَبْلِهِ الرُّسُلُ وَأُمُّهُ صِدِّيقَةٌ كَانَا يَأْكُلَانِ الطَّعَامَ )) فَجَعَلَ ذَلِكَ دَلِيلًا عَلَى نَفْيِ الْأُلُوهِيَّةِ ، فَدَلَّ ذَلِكَ عَلَى تَنْزِيهِهِ عَنْ ذَلِكَ بِطَرِيقِ الْأَوْلَى وَالْأَحْرَى ، وَالْكَبِدُ وَالطِّحَالُ وَنَحْوُ ذَلِكَ هِيَ أَعْضَاءُ الْأَكْلِ وَالشُّرْبِ فَالْغَنِيُّ الْمُنَزَّهُ عَنْ ذَلِكَ مُنَزَّهٌ عَنْ آلَاتِ ذَلِكَ ، بِخِلَافِ الْيَدِ فَإِنَّهَا لِلْعَمَلِ وَالْفِعْلِ وَهُوَ سُبْحَانَهُ مَوْصُوفٌ بِالْعَمَلِ وَالْفِعْلِ ، إذْ ذَاكَ مِنْ صِفَاتِ الْكَمَالِ ، فَمَنْ يَقْدِرُ أَنْ يَفْعَلَ أَكْمَلُ مِمَّنْ لَا يَقْدِرُ عَلَى الْفِعْلِ . ".
طيب إذا مثلا لو قال قائل : هل يجوز أن نثبت لله أمعاء وكبداً ومعدة وما أشبه ذلك ؟
نقول : لا يجوز هذا ، لأن هذه إنما هي للأكل والشرب أوعية الأكل والشرب ، والله سبحانه وتعالى لا يأكل ولا يشرب ، فليس بحاجة إلى هذا . لا إلى الأكل ولا إلى الشرب ولا إلى آلتهما .
بخلاف اليد ، اليد فيجوز أن نثبت لله ، بل يجب أن نثبت لله لأنها آلة الفعل ، والله سبحانه وتعالى يفعل ويعمل :
(( أَوَلَمْ يَرَوْا أَنَّا خَلَقْنَا لَهُمْ مِمَّا عَمِلَتْ أَيْدِينَا أَنْعَاماً )) وقال تعالى : (( وَعْداً عَلَيْنَا إِنَّا كُنَّا فَاعِلِينَ )) .