بيان الأسباب التي تجعل بعض المحققين تزل به القدم فيصحح أو يحسن الحديث الضعيف. حفظ
الشيخ : ولعله من المفيد في هذا الدرس الأول أو في هذه المقدمة بين يدي تدريس الرياض أن نذكر سبباً من الأسباب التي تجعل بعض العلماء المحققين والمميزين للصحيح من الضعيف من الحديث تزل به القدم فيصحح أو على الأقل يحسن ما لا يستحق التصحيح والتحسين
من هذه الأسباب هو كما هو طبيعة البشر عامة إلا ما قل وندر ممن اصطفاهم الله تبارك وتعالى ونجاهم من التقليد والجمود على اتباع الآباء والأجداد ولو كانوا من العلماء على أن هذا التقليد يختلف فيه الناس قلة وكثرة والناجي هو الذي يتخذ مذهباً له ترك التقليد والاعراض عنه ما استطاع إليه سبيلاً هذا هو الناجي وإن كان هو بنفسه قد يضطر إلى أن يقلد لأن المرء لا يستطيع أن يجتهد في كل ما يعرض له من بحث وتحقيق في علم الحديث أو في علم الفقه أو في أصول الحديث أو في أصول الفقه لا بد من التقليد ولكن هناك فرق بين تقليد وتقليد وبين مقلد ومقلد فهناك مقلد يستسلم لمقلده كما يستسلم لنبيه صلى الله عليه وآله وسلم المعصوم الذي كما قال تعالى : (( وما ينطق عن الهوى إن هو إلا وحي يوحى )) وبين مقلد آخر يقلد غير ناس أن الواجب عليه أولاً الاتباع على بصيرة وأنه يقلد حينما يعجز عن أن يكون متبعاً على بصيرة
هذا النوع الثاني من التقليد هو شأن العلماء أما النوع الأول الذي هو التقليد وجعله مذهباً فهذا هو مذهب عامة الناس وجمهور المسلمين وهذا خطأ لا يجوز في دين الله تبارك وتعالى، قلت إن الأصل عدم التقليد إلا لضرورة وهذا ما يقع فيه بعض العلماء وفي اعتقادي أن مثل هذا التقليد هو الذي يجعل مثل الإمام النووي يقع في بعض الأخطاء التي أشرنا إليها آنفاً
فهو مثلاً يأتي إلى حديث وسنذكر الأمثلة في أثناء دراستنا لهذا الكتاب إن شاء الله تعالى، يأتي إلى حديث يعزوه للإمام أبي داود وهو كان قد درس على شيوخه بل هو بنفسه قرر في بعض كتبه أن ما سكت عنه أبو داود في سننه فهو صالح علماً بأن هذه الكلمة من أبي داود وهو صالح اختلف العلماء في تفسيرها اختلافاً لست الآن في صدد شرحه وبيان الصواب منه لكني أريد أن أذكر ما لا بد منه فيما يتعلق بالإمام النووي ألا وهو أن الإمام النووي حينما يقرر في بعض كتبه أن ما سكت أبو داود عنه فهو صالح يقرر هذا مصرحاً ومذكراً بأن هذا الأمر ليس مضطرداً في أحاديث كتابه السنن على ما ذكرنا من الخلاف في تفسير صالح
مع هذا مع قوله أن هذا ليس أمراً مضطرداً بل وتصريحه بأن أبا داود رحمه الله يروي في كتابه أحاديث ضعيفة صراحة ومع ذلك فهو يسكت عنها وأغرب من هذا كله أن الإمام النووي هذا يقول في بعض كتبه ومنه كتابه العظيم * المجموع شرح المهذب * يقول هذا حديث رواه أبو داود وإسناده ضعيف وإنما سكت أبو داود عنه لظهور ضعفه، وهذا كلام صحيح لأنك تجد الحديث بسند عن رجل عن فلان رجل لم يسم فهو مجهول مع ذلك سكت عنه أبو داود فيقول الإمام النووي إنما سكت عنه لوضوح ضعفه إذن لا ينبغي أن نستسلم لكل حديث سكت عنه أبو داود بل لا بد من البحث طبعاً لا أريد من قولي لا بد من البحث لكل فرد من أفراد الناس لأن هذا علم يختص به بعض الأفراد من العلماء فماذا نقول عن عامة الناس وإنما إذن أريد أن أقول بالنسبة لأولئك العلماء الجماهير الذين كان همهم فقط التقميش والتجميع دون التفتيش والتحقيق والذين باستطاعتهم أن يقوموا بواجب التمييز هؤلاء من الواجب عليهم أن لا يستسلموا لهذه القاعدة : ما سكت عنه أبو داود فهو صالح ، لما ذكره النووي نفسه أن أبا داود رحمه الله يروي بعض الأحاديث
الترغيب والترهيب ، كالإمام السيوطي مثلاً في الجامع الصغير والكبير وإنما الإمام النووي قد تقصد أن يورد في كتابه فقط كما قلنا الأحاديث الصحيحة والحسنة ، إذن كيف أورد أحاديث سكت عنها هو وعزاها لأبي داود ؟ لأن القاعدة عنده أن ما سكت عنه فهو صالح فاعتمد عليها ثم لا ندري هل هو استطاع أن يتفرغ لتحقيق الكلام في كل حديث عزاه أبو داود ففعل ثم زل به القلم أم لم يتفرغ لذلك
وهذا الأمر الثاني هو الذي يغلب على ظني وذلك لأن ظهور جهالة الرجل للذي يطلع على الحديث ... له لا يخفى على مثل الإمام النووي بل على من دونه فالظاهر أنه طبق القاعدة العامة واعتمد عليها ولم يتفرغ بإمعان النظر لإسناد كل حديث ، هذا مثال من الأسباب التي دفعت الإمام أن يقع في كتابه بعض الأحاديث الضعيفة.
من ذلك أيضاً اعتماده على تصحيح وتحسين الإمام الترمذي، والإمام الترمذي معروف بالتساهل في تصحيح الأحاديث وفي تضعيفها
وهناك سبب آخر يبدو للباحث والمحقق أن نسخ الترمذي تختلف في بعض الأحاديث خلافاً جزرياً ففي بعض النسخ حتى المطبوعة تجد يقول حديث حسن صحيح ، على الهامش تجد وفي نسخة : حديث حسن غريب ، وفي نسخة أخرى : حديث غريب وشتان بين هذه النسخ ، في هذه الحالة لا بد للباحث المحقق أن يتأكد أولاً هل نسخ الترمذي كلها متفقة فإذا كانت متفقة فهو لا يعتمد على الترمذي لأن العلماء قالوا إن الترمذي متساهل في التصحيح ولذلك لا ينبغي للعالم أن يعتمد عليه بل ينبغي أن يعيد نظره فيما صححه أو حسنه ، أما إذا اختلفت النسخ فهذا أدعى وأحرى أن يتأكد العالم بل وطالب العلم المتمكن في هذا العلم من أن يتحقق من النسخة الصحيحة التي تطابق ما عليه علماء الحديث في أصولهم في الجرح والتعديل وفي أقوالهم في التوفيق وفي التجريح .
هذا ما أردت أن أذكره بين يدي تدريس كتاب رياض الصالحين للإمام النووي رحمه الله