من أمثلة متابعة أبي الحسنات اللكنوي في كتابه شرح الموطأ برواية الشيباني للسنة النبوية وترك التعصب المذهبي. حفظ
الشيخ : هذه الأمثلة التي تحضرني في هذه الساعة أنه لما جاء إلى حديث : ( لا صلاة لمن لم يقرأ بفاتحة الكتاب ) ذكر مذهب الإمام الشافعي وأنه يرى قراءة الفاتحة للمقتدي واجبة حتى في الصلاة الجهرية ، ويحكي عن مالك القراءة السرية دون الجهرية ، وعن إمامه أبي حنيفة لا يقرأ المقتدي لا في السرية ولا في الجهرية ، ويورد أدلة العلماء هؤلاء ، ثم يذهب مذهباً وسطاً يوافق فيه مذهب الإمام أحمد -رحمه الله- كمذهب مالك أنه يقرأ في السرية دون الجهرية ، ويورد كثيرًا مِن أدلة الحنفية الذين مِن عادتهم أن يحتجوا بكل حديث بغض النظر عن صحته أو ضعفه ، مِن هذه الأحاديث مثلًا التي لا تصح : ( من قرأ وراء الإمام مُلئ فوه ناراً ) فيبين بكل تجرد أن هذا الحديث ليس له صحة ويناقش ذلك على طريقة الحذرين ، فهنا وقف موقفاً وسطاً بين القائلين بالفرضية ، فريضة قراءة سورة الفاتحة مطلقاً سواءً كان المقتدي وراء الإمام في الصلاة الجهرية أو في الصلاة السرية ، ثم ردَّ على مذهب إمامه أبي حنيفة الذي يرى عدم القراءة مطلقاً حتى في السرية ، فذهب مذهب الوسط الذي ذهب إليه قبله الإمام أحمد رحمه الله ، مع أن قليل جدًّا جدًّا من علماء الحنفية من يخرج عن القول المشهور عندهم وهو قول إمامهم بالإنصات مطلقاً حتى في السرية.
كذلك خالف مذهب الحنفية كلِّهم حينما رجَّح سُنية رفع اليدين أو لعل الأصح أن نقول : استحباب رفع اليدين عند الركوع والرفع منه ، فلعله ذهب إلى الرفع مع كل تكبيرة ولست بالذي أجزم بذلك الآن ، أما أنَه رجح الرفع عند الركوع والرفع منه وعند القيام من التشهد الأول إلى الركعة الثالثة فهذا تيقن أنه قال ذلك وخالف بذلك علماء الحنفية الذين يُصرِّحون بأن رفع اليدين في غير تكبيرة الإحرام مكروهٌ تحريماً ، وبنوا على هذا الحكم الشديد كما تسمعون قولهم بكراهة الصلاة وراء الشافعية ، لأنهم يرفعون أيديهم في هذه التكبيرات ، وقلت آنفاً : بأنهم قالوا باستحباب الرفع وليس بالسنية لأنه وقف موقفاً وسطاً بين الحنفية من جهة وبين الشافعية من أخرى للجمع بين الأحاديث المثبِتة كحديث ابن عمر وأبي حميد الساعدي ومالك بن حويرث وغيرهم ممن روى الرفع في تلك الأماكن الثلاثة : عند تكبيرة الإحرام ، وعند الركوع ، وعند رفع الرأس منه ، جمع بين هذه الأحاديث وبين حديث ابن مسعود -رضي الله عنه- الذي روى عنه أبو داود وغيره أنه قال لبعض أصحابه : ( ألا أُصلي لكم صلاة رسول الله -صلى الله عليه وآله وسلم- ثم رفع يديه عند تكبيرة الإحرام ولم يعد ) فهو أراد ألا يهدر هذا الحديث النافي فخرج بالنتيجة التالية : أن كلاً من الرفع والترك سنة ، والسنة إذاً أن يرفع أحيانًا ويترك أحيانًا استعمالًا للجانبين من الأحاديث الأحاديث المثبتة وحديث ابن مسعود النافي .
وهناك حديث آخر بمعنى حديث ابن مسعود أَلَا وهو حديث البراء بن عازب لكن هذا حديث البراء فيه رجل ضعيف أظنه -لأن العهد به قديم- الراوي له اسمه : يزيد بن أبي زياد الهاشمي الدمشقي .
الشاهد أن هذا الرجل لو طال عمُره لرأينا منه إنصافاً في المسائل الخلافية بين الحنفية وغيرهم أكثر مما ظهر بهذا الشرح ، لأنه شرح ليس بالكبير ، وهو : * التعليق الممجد على موطأ الإمام محمد * .
فهو في بعض المسائل التي أشرت بالسؤال عنها هو في الواقع يدل على أنه كان يجمع بين علم مصطلح الحديث وعلم الفقه الذي يُسمى اليوم بالفقه المقارن ، ولكن يجب أن نقول الحقيقة : أن أيّ إنسان عاش سنين طويلة يتعبد الله تبارك وتعالى بمذهب مِن المذاهب المتبعة فليس مِن السهل أبداً أن يتخلص من التقليد بطرة واحدة وإنما يتدرج في ذلك ، ولهذا فقد يوجد في تلك الوسائل شيء لا يمكن التسليم بصحته كالميل مثلا وأيده بطبيعة الحال في ذلك عبدالفتاح أبو غدة بالاعتداد لقول مَن وثّق أبا حنيفة وإهدار أقوال الأئمة الآخرين وهم جمهور العلماء من النقاد الذين ضعفوا أبا حنيفة على الأقل من جهة سوء حفظه ، فهو مال ونرجو أن يكون هذا الميل ليس هو من آثار التعصب لإمامه وإنما هو الذي تبين له فذهب إلى توثيق أبي حنيفة خلافاً للإمام أحمد والبخاري ومسلم وجماهير المحدثين ، فهذا ما يحضرني الآن جوابًا عن ذاك السؤال.