كلام الشيخ حول فرقة الجبرية وذكر بعض الأدلة على بطلان مذهبهم. حفظ
الشيخ : (( إلا من أُكره وقلبه مطمئن بالإيمان )) ، ولقد روى بعض علماء التفسير كابن جرير الطبري وغيرِه أنَّ هذه الآية نزلت في عمار بن ياسر رضي الله عنه حيث عذبه المشركون كما عذبوا بلالاً ، ثم يظهر أنهم شعروا منه بشيء مِن الضعف والارتخاء فعرضوا عليه أن يكفر بمحمدٍ صلى الله عليه وآله وسلم وأن يقول فيه : إنه كذَّاب ، إنه ساحر إنه شاعر ، قالوا له : إن قلت هذا أطلقنا سراحك ، فهو وجب استرواحاً لهذا العرض فقال الكلمات هذه فأطلقوه ، فجاء إلى الرسول عليه الصلاة والسلام وبعد هذه الراحة التي وجدها عاد إليه رُشدَه فأنَّبته نفسه كيفَ أنا قلت فيمن هداني الله بسببه إنه كذاب إنه ساحر إنه شاعر ؟!
فشكى الأمر إلى النبي صلى الله عليه وسلم لعله ترتاح نفسُه مما بدر منه من الخطأ ، فقال له عليه الصلاة والسلام : ( كيف تجد قلبك ) أي : هذه الكلمات التي هي الكفر بعينه هل أنت مطمئن إليها ومنكر صدقي ونبوتي وإلى آخره ، قال : ( أجد قلبي مطئمناً بالإيمان ، فقال عليه الصلاة والسلام : فإن عادوا فعُد ) .
فالآن مَن مِن العقلاء ممن أوتي ذرة من عقل ولب يسوِّي بين كفر عمار بن ياسر وكفر أبي لهب وأبي جهل ، هل يستويان مثلاً ؟ الجواب : لا ، لكنهما كل من الكفرين مسجلٌّ في اللوح المحفوظ لأن الله قال : (( ما فرطنا في الكتاب من شيء )) لكن هذا المسجل هو الذي وقع ، فلماذا هؤلاء الجبريون يتخذون إذاً الكتابة السابقة دليلًا على أن المكتوب مجبورٌ عليهِ صاحبُه ، والمكتوب فيه تفصيل : تارة قد يكتب مجبوراً وتارةً قد يكتب مختاراً ، فالقدر نفسه مطابق الواقع له ، فما كان إجباراً فلا مؤاخذة كما في قصة عمار بن ياسر ، وما كان اختياراً كما في قصة أبي لهب وأبي جهل وأمثالهم من الكفرة ، فبهذا يمكن الرد على هؤلاء الجبرية .
ويكفي أن تعرفوا خطورة مذهبهم وسخافة عقولهم ما قاله الشاعر في حقهم ممثلاً لهم كيف اعتقدوا في ربهم الظلم الذي يترَفّع عنه أظلم الناس ، حيث وصفوا ربهم بقولهم كما قال الشاعر :
" ألقاه في اليم مكتوفاً ثم قال له *** إياك إياك أن تبتلَّ بالماء "
هل يفعل هذا أظلم الظلمة ، بيغلله بالأغلال ثم يرميه في البحر ويقول له : اصحك يصيبك رشاش الماء ، أظلم الناس ما يفعل هذا ، أما هم فقد وصفوا ربهم بما لا يليق بأفجر الناس وأقبح الناس:
" ألقاه في اليم مكتوفاً وقال له *** إياك إياك أن تبتلَّ بالماء " .
أما الله عز وجل فقد صرَّح بأنه لا يظلم الناس شيئاً ولكنَّ الناس أنفسهم يظلمون ، وفي الحديث القدسي قال الله تبارك وتعالى : ( يا عبادي إني حرمت الظلم على نفسي وجعلته بينكم محرماً فلا تظالموا ، يا عبادي كلكم ضالٌّ إلا من هديته فاستهدوني أهدكم ، يا عبادي كلكم جائع إلا من أطعمته فاستطعموني أطعمكم ، يا عبادي كلكم عارٍ إلا من كسوته فاستكسوني أكسكم ، يا عبادي لو اجتمع أولكم وآخركم وإنسكم وجِنّكم على صعيدٍ واحدٍ فسألني كل واحد مسألته فأعطيته إياها ما نقص ذلك من ملكي شيئاً ، يا عبادي لو أنَّ أولكم وآخركم وإنسكم وجنكم كانوا على أتقى قلب رجل واحد منكم ما زاد ذلك في ملكي شيئاً ، يا عبادي لو أنَّ أولكم وآخركم وإنسكم وجنكم كانوا على أفجر قلب رجل منكم ما نقص ذلك من ملكي شيئاً ، يا عبادي -وهنا الشاهد- إنما هي أعمالكم أُحصيها عليكم فمن وجد خيراً فليحمد الله ، ومن وجد غير ذلك فلا يلومنَّ إلا نفسه ) ، فهل هذا الحديث مِن أوله إلى آخره يدل على أن الإنسان لا يملك التصرف ، لا يملك أن يكون صالحاً ، ولا يمكن أن يكون طالحاً ، فإذا كان طالحاً وعذبه رب العالمين وهو يقول : ( أنا حرمت الظلم على نفسي وجعلته بينكم محرماً فلا تظالموا ) أي : الظلم الذي تعرفونه بينكم ظلماً هو عندي ظلمٌ فنزّهوني ولا تنسبوا إليّ الظلم ، فإذا رجعنا إلى ذلك البيت الذي وَصَفَ عقيدة الجبرية :
" ألقاه في اليم مكتوفاً ثم قال له *** إياك إياك أن تبتلَّ بالماء " :
هذا في عرف البشر عدل ولا ظلم ؟
هو ظلم ، إذاً ربنا عز وجل يعلم الناس أنه هو أنزه من أن يظلم الناس شيئاً ولكن الناس أنفسهم يظلمون .