توضيح لأثر العيش في البيئة وأن الإنسان يتأثر بمحيطه ، وذكر دليل ذلك من السنة المشرفة وأنه من شريعتنا. حفظ
الشيخ : ولعله من المفيد أن نذكِّر بحديث أخرجه الإمام مسلم في * صحيحه * وربما البخاري أيضًا في * صحيحه * حديث رائعٌ جدًّا في إثبات ما قد يظن بعض مَن يدرسون علم النفس من الشباب المسلم دراسةً عصريةً مجردة عن التأثر بالتوجيه القرآني والحديث النبوي، يظن أنَّ ما قرأه في علم النفس هذا من اكتشاف الأوربيين، من ذلك مثلًا قولهم: " إن البيئة تؤثر، سواء كانت هذه البيئة مادية أم كانت معنوية ":
هذا مأخوذ من شريعتنا، فاسمعوا حديث نبيكم الذي أثبت تأثير البيئة وشرع لنا أن نعيش في البيئة الصالحة ولا نعيش في البيئة الطالِحة حتى لا نتأثر بأخلاق أهلها، قال عليه الصلاة والسلام: ( كان فيمن قبلكم رجلٌ قتل تسعة وتسعين نفسًا، ثم أراد أن يتوب إلى الله، فسأل عن أعلم أهل الأرضِ، فدُلَّ على راهب ): كان حظه سيئًا، هو سأل عن أعلم أهل الأرض فدُل على جاهل لكنه متعبد، وهذا من مصيبة الناس في كل عصرٍ ودهر، يظنون الرجل المتعبيد أنه يتعبد على عِلم كأنهم يتصورون اجتماع العلم والصلاح أمرٌ ضروري متلازم، مع الأسف ليس الأمر كذلك، فكم من متعبدٍ جاهل، وكم من عالم فاسق، وقلَّما يجتمع العلم والصلاح، لذلك كان هذا الرجل الفاجر الذي قتل تسعة وتسعين نفسًا بغير حقٍ كان عاقلًا حينما سأل أن يدلوه على أعلم أهل الأرض، لكن أساؤوا الدِلالة فدلوه على راهب.
( فجاء إليه وقال له: إني قتلت تسعة وتسعين نفسًا فهل لي من توبة؟ قال: قتلت تسعة وتسعين نفسًا وتسأل عن التوبة، لا توبة لك، فأكمل به العدد مائة، لكنه رجل مُصِرٌّ على التوبة والرجوع إلى الله عز وجل، فما زال يسأل عن أعلم أهل الأرض حتى دُلَّ عليه فأتاه، وقص له القصة: إني قتلت مائة نفس بغير حق فهل لي من توبة؟ قال: من يحول بينك وبين التوبة؟ -والشاهد في قوله الآتي-: ولكنك بأرضِ سوء اخرج منها -هذه البيئة وتأثيرها- بأرض سوء فاخرج منها إلى القرية الفلانية الصالحُ أهلُها، فخرج يمشي ): خروجه دليل أنه كان جادًّا في توبته إلى ربه، ويشاء الله عز وجل أن يتوفاه وهو في طريقه للقرية الصالحة.
( فتنازعته ملائكة الرحمة وملائكة العذاب ): كل من الطائفتين يدعي بأنه من حقه أن يتولى قبض روحه، ملائكة العذاب يعلمون منه أنه قتل مائة نفس بغير حق، فمن أولى بأن يُقبض روحه إلا من ملائكة العذاب ؟!
ملائكة الرحمة نظروا إلى العاقبة وإلى الخاتمة، وكما جاء في الحديث الآخر في غير هذه المناسبة: ( إنما الأعمال بالخواتيم ) فأرسل الله عز وجل إليهم ملكًا يحكم بينهم، فقال لهم كأنه يقول الخطب سهل: ( قيسوا ما بينه وبين كل من القريتين فإلى أي القريتين كان أقرب فألحقوه بأهلها، فقاسوا ما بينه وبين القرية التي خرج منها وما بينه وبين القرية التي قصدها فوجدوه أقرب إلى هذه القرية الصالح أهلها بمقدار ميل الإنسان في أثناء مشيه ): الإنسان ما يمشي هكذا وإنما مع شيء من الانحناء للأمام، فتولته ملائكة الرحمة، الشاهد: ( اخرج من هذه القرية ): فإنها قرية شريرة منها تعلمت سفك الدماء وانتقل إلى القرية الصالح أهلها، إذن:
"عن المرء لا تَسَل وسل عن قرينه *** فكل قرينٍ بالمقارن يقتدي".