باب : " باب البخل " . شرح حديث جابر رضي الله عنه : ( من سيدكم يا بنى سلمة قلنا جد بن قيس على أنا نبخله قال وأي داء أدوى من البخل ... ) حفظ
الشيخ : يأتي الآن باب جديد من أبواب * الأدب المفرد * للإمام البخاري .
وهو قوله : " باب البخل" .
يروي أيضًا بإسناده الصحيح .
عن جابر قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: ( من سيدكم يا بني سلمة ؟ ) .
قبيلة من قبائل العرب بنو سلمة ، سأل أهل هذه القبيلة أو بعضها : من سيدكم من رئيسكم من أعلاكم.
قلنا: " جُدّ بن قيس " اسم عربي جُدّ قالوا هذا هو رئيسنا جد بن قيس لكن الجماعة عرب ومسلمون ويصدقون فيما إذا تكلّموا فبعد أن ذكروا ان رئيسهم فلان أتبعوا ذلك بقولهم: " على أنّا نُبَخِّله " ذكروا فيه عيباً " على أنّا نُبَخِّله " : يعني نجده بخيلاً مع أنه رئيسنا، والمفروض في الرئيس أن يكون كريم وأن يكون سخي لكنه على عكس ذلك " على أنّا نُبَخِّله " فرد عليهم الرسول بقوله : ( وأي داء أدوى ) أصله : " أدوء " ( وأي داء أدوى من البخل؟ بل سيدكم عمرو بن الجموح ).
في هذا الحديث في الواقع فوائد من أهمها: أن ذكر بني سلمة للرسول عليه السلام في غيبة جُد بن قيس رئيسهم أنه بخل هنا فائدة فقهية وهو أنه يجوز استغابة الرجل إذا ترتّب من وراء ذلك مصلحة شرعية ، هذه غيبة قول أهل بني سلمة للرسول عليه السلام لما سألهم عن رئيسهم وسيدهم فلان على أنا نبخّله أي وصفهم إياه بالبخل هذه غيبة لأنكم تعرفون كلكم أن الغيبة.
-اشربي بيدك اليمنى ، ولا تشربي باليسرى علموا أولادكن على الآداب الإسلامية-
فقول القائل نبّخله يعني نجده بخيلا هذه غيبة ، لأن الغيبة كما قال عليه الصلاة والسلام في الحديث الصحيح: ( الغيبة ذكرك أخاك بما يكره ) وكل منا إذا ذكر بما فيه من الخلق السيء فهو غيبة بلا شك، إذا أنا قلت: زيد من الناس بخيل هذا يكرهه ولو أنه يعرف من نفسه أنه بخيل، إذا قلت: فلان غضوب وهو فعلا غضوب ، ولكن هذا شيء يكرهه وعلى ذلك فقس ، كله غيبة ، لأن الرسول عليه السلام يقول: ( الغيبة ذكرك أخاك بما يكره ) فقال السائل كان يتوهّم السائل أن ذكر الإنسان بما فيه لا حرج فيه ، فلما ذكر الرسول عليه السلام أنه فيه كل الحرج قال : فإذا لم ما ذكرته فيه لم يكن فيه ؟ قال : ( فقد بهته ) بهتاناً هذا إثمه أكبر وأكبر.
إذن : إذا كانت الغيبة ذكرك أخاك بما يكره فكيف وصف أهل بني سلمة رأيسهم وسيدهم بحضرة الرسول عليه السلام بأنه بخيل وأقرّهم الرسول عليه السلام على ذلك ولم يقل لهم : ماذا تفعلون لماذا تستغيبوه ؟ كما يفعل بعض المتورّعين بل بعض المتنطّعين ، حينما تأتي مناسبة بوصف رجل ما بخلق سيء فيه تحذيراً للناس بيقوم واحد متورّع أو متنطّع يقول : يا أخي لا نريد أن نستغيب الناس.
فيجب أن نعرف تفصيل القول في الغيبة ، وهذا الحديث يعطينا مثال من أمثلة هذا التفصيل.
الأصل أن الغيبة محرّمة وضابطها : أن المستغيب ليس له مصلحة دينية حينما يستغيب المستغاب، وإنما هو تفشيش خلق أو من باب التسلية أو لت كلام أو غير ذلك ، هذا كله غيب محرّمة ، أما إذا كانت الاستغابة لا يقصد بها الترويح عن النفس بذلك، وإنما يراد بها مصلحة إسلامية هذه تكون غيبة جائزة ، وهذه طبعا تتنوع بصور شتى ، وقد جمعها بعض العلماء في بيت شعر قالوا:
" القدح ليس بغيبة في ستّة *** متظلم ومعرّف ومحذّر
ومجاهر فسقاً ومستفتٍ ومن *** طلب الإعانة في إزالة منكر "

ست أشياء يدخل في كل خصلة من هذه الخصال فروع كثيرة جداً لكن جماع هذه الست خصال مما أبيحت واستثنيت من الغيبة المحرمة ، فقال العالم الشاعر:
" القدح ليس بغيبة في ستّة "
أولها: " متظلم " : متظلم أي مظلوم ، المظلوم له الحق أن يقول فلان ظلمني لماذا ؟ لأنه فعل كل الوسائل الممكنة ليصل إلى حقه من ذلك الظالم فلم يفلح ولم ينجح ، ما بقي إلا أن يشهّره بالناس لعله يتحسس قليلاً فيقدّم الحق بهذا المظلوم ، ولذلك قد صرح الرسول صلوت الله وسلامه عليه لهذا الحكم ولهذا الجواز فقال: ( ليّ الواجد يحلّ عرضه وعقوبته ).
( ليّ الواجد ) الّي المماطلة ، كما في الحديث الآخر: ( مطل الغني ظلم ) والواجد هو الغني ، ( لي الواجد ) أي مماطلة الواجد أي الغني الذي يجد ما يفي عنه الحق يعتبره الشارع الحكيم ظلماً فقال عليه السلام في الحديث السابق: ( لي الواجد يحل عرضه وعوبته ) يحل عرضه المقصود يحل النيل منه والطعن فيه لكن لا يقال مثلاً فلان كذّاب إذا كان يعرفه صادقاً ، فيتكلم بأمانة يطعن في عرضه بخصوص ما يعتني به على هذا المظلوم ، فقط هذا هو معنى ( لي الواجد يحل عرضه ) ( وعقوبته ) من يعاقبه؟ الحاكم المسلم الحاكم المسلم يحق له أن يستدعي الظالم الذي يمتنع عن أداء الحق الذي له على هذا المظلوم ، فيعاقبه يجلده خمسة عشرة حسب ما يرى تأديبه حتى لا يعود مرّة أخرى إلى الاعتداء على حقوق الناس، فهذا الحديث صريح في إباحة استغابة الظالم لي الواجد يحل عرضه : يعني الطعن فيه وعقوبته من الظالم فأول خصلة مما يستثنى من الغيبة المحرّمة هو المظلوم.
متظلّم : يعني يشكو مظلمته عند الناس يقول : فلان ظلمني ، وهذا الحكم ليس فقط في الحديث بل وفي القرآن الكريم حيث قال الله تبارك وتعالى : (( لا يحب الله الجهر بالسوء من القول إلا من ظُلم )) من ظُلم يجوز له أن يجهر بالكلام السيء بالنسبة لمن ظلمه، هذا أول نوع يستثنى من الغبيبة المحرّمة ، متظلّم.
" ومعرّف " : هذا مثال بين أيدينا الآن من الأمثلة الكثيرة الرسول عليه السلام سأل بعض الصاحبة من بني سلمة : ( من سيّدكم ؟ ) قالوا : " جُدّ بن قيس " هو يسألهم ليتعرّف فهم أجابوه تعريفاُ له عليه السلام فقالوا : " على أنا نبخّله ".
وأوضح من هذا المثال : لما جاءت أمرأة وقد خطبها رجلان جاءت إلى النبي صلى الله عليه وسلم فقالت : يا رسول الله فلان وفلان خطباني ، هي قالت أبو جهم بالميم ، وليس أبو جهل باللام ، أبو جهم من الصحابة ومعاوية بن أبي سفيان ، كل منهما خطبني ، فكأنها تقول : أنا محتارة أوافق على هذا أو على هذا وكأنها تقول : انصحني يا رسول الله أوافق على هذا أو على هذا ؟ الرسول عليه السلام لم يقل لها لا خذي هذا ولا خذي هذا لأن المسألة حساسة النساء مقاصدهم وغاياتهم مختلفة، فما كان من الرسول عليه السلام غير أن يصف كلا من الخاطبَين للمرأة المخطوبة من كل منهما لذلك قال عليه السلام : ( أما أبو جهم فرجل لا يضع العصا عن عاتقه ، وأما معاوية فرجل صعلوك ) فنجد هنا رسول الله صلى الله عليه وسلم عيب كلا الخاطبين لتلك المرأة حتى تكون على بصيرة.