باب : " باب ما جاء في التمادح " . شرح حديث أبا بكرة الثقافي رضي الله عنه : ( أن رجلا ذكر عند النبي صلى الله عليه وسلم فأثنى عليه رجل خيرا فقال النبي صلى الله عليه وسلم ويحك قطعت عنق صاحبك ... ) حفظ
الشيخ : قال المؤلف رحمه الله:
" باب ما جاء في التمادح " .
روى تحته بإسناده الصحيح .
عن عبد الرحمن بن أبي بكرة عن أبيه يعني أبا بكرة الثقفي من الصحابة المشهورين : ( أن رجلا ذكر عند النبي صلى الله عليه وآله وسلم فأثنى عليه رجل خيرا، فقال النبي صلى الله عليه وآله وسلم: ويحك قطعت عنق صاحبك ) يقوله مرارا، يعني يكرر رسول الله صلى الله عليه وسلم هذه الجملة : ( ويحك قطعت عنق صاحبك ) ( ويحك قطعت عنق صاحبك ) مرارا على الأقل ثلاث مرات ، ثم أتبع ذلك عليه الصلاة والسلام بقوله : ( إن كان أحدكم مادحا لا محالة فليقل: ( أحسب كذا وكذا -إن كان يرى أنه كذلك- وحسيبه الله، ولا يزكي على الله أحدا ) في هذا الحديث أدب من الآداب الإسلامية التي هجرها جماهير المسلمين اليوم وليس ذلك فقط بل قلبوه رأسا على عقب ، ذلك أن في هذا الحديث أنه لا يجوز للمسلم أن يمدح أخاه المسلم في وجهه وذلك خشية أن يُفتتن بهذا المدح ، أما القدح واضح لأننا نتضرر يعني نحاول أ نجعل أنفسنا ضعفاء وأدباء بأن نمدحهم ولو بالباطل، بينما شرعا لا يجوز مدح المسلم لأخيه المسلم ولو بالحق، ولو كان لا بد مادحا له ولا يقطع بمدحه إياه وإنما يخفف وقع المدح في صاحبه بالتشكيك في عبارته بأن يقول : أظن فيه كذا وكذا ، مثلاً لا يصح أن نقول لإنسان نظنه صالحا : والله أنت رجل صالح والله أنت رجل طيب والله أنت ما في منك ونحو ذلك من العبارات التي يلهج بها جماهير الناس اليوم وهم يحسبون أنهم يحسنون صنعا.
يقول الرسول صلوات الله وسلامه عليه في هذا الحديث للذي مدح صاحبه : ( ويحك قطعت عنق صاحبك ) أي أهلكته وفعلت فيه من الناحية المعنوية ما تفعل السكين أو السيف من الناحية المادية، فالسيف يقطع بها صاحبه عنق خصمه فمدحه لصاحبه يفعل فيه فعل سيفه بخصمه، لذلك قال عليه الصلاة والسلام : ( ويحك قطعت عنق صاحبك ) ولم يكتف النبي صلى الله عليه وسلم بكلمته هذه مرة واحدة وإنما أعادها مرارا وتكرارا : وهو يقول : ( ويحك قطعت عنق صاحبك ) وفي رواية ( ويحك اقعد قطعت عنق أخيك ) ( ويحك قطعت عنق أخيك ) أعادها ثلاثا.
ثم كأن الرسول عليه السلام قيّد هذا الإطلاق لأنه لو أنه صلى الله عليه وآله وسلم وقف عند هذه الجملة: ( ويحك قطعت عنق أخيك ) لكان لا يجوز المدح مطلقا، ولكنه لطّف بأمته فقال : ( إن كان أحدكم مادحا لا محالة فليقل: إني أحسبه كذا وكذا والله حسيبه ، ولا يزكي على الله أحدا ) أي لا يقطع بتزكية إنسان، لأن قول القائل في صاحبه سواء كان ذكر أو أنثى الحكم لا يختلف اللفظ جاء مطلقا فلان صالح كأنه كُشف له عن اللوح المحفوظ فجزم بأنه صالح فهذا معناه أنه يحكم على الله بأنه صالح وهذا بطبيعة الحال لا يجوز، لذلك قال عليه السلام ولا يزكي على الله أحدا، أي لا يحكم على الله بان فلان عنده مزكّى وطاهر وصالح ونظيف وغير ذلك من المعاني وإنما يمسك عن المد ولا يمدح مطلقاً.
لكن إن كان في وضع يشعر بأن هذا الإنسان في الواقع صالح لكن هو حكمه عليه بالصلاح إنما فيما بدا له فهو ما شق عن صدره ولا كشف عما في فؤاده وإنما حكم فيما ظهر له من عمله، فإذن بناءً على هذا الظاهر يقول أظنه كذا وكذا أحسبه كذا وكذا ولا يزكي على الله أحدا.
هذا الأدب يجب أن نرعاه اليوم ولو قيل ما يقال في مثل هذا الأدب في هذه الشدة وهذه مثلا ما فيها مرونة ما فيها نواحي من الليونة، فالإسلام ينظر إلى عواقب الأمور ، صحيح أن الإنسان إذا كان أثنى على غيره ربما رضي هذا الغير عليه ولكن ما فائدة رضاه إذا كان مدحه إياه أودى به وبصاحبه للنار، لذلك فليكن حرصنا ودأبنا دائما وأبدا على مرضاة الله عز وجل ولو أن ذلك أودى بنا إلى غير مرضاة غير الله عز وجل .
إذن الرسول عليه السلام يقول لمن كان لا بد يريد أن يمدح : ( إن كان أحدكم مادحا لا محالة فليقل: أحسب كذا وكذا - إن كان يرى أنه كذلك - ) ينبغي أن نلاحظ هذه الجملة ( إن كان يرى أنه كذلك ) يعني ما يجوز أن يقول عن الفاسق صالح وهو عندنا فاسق ، لكن إن كنا نظن إنساناً بأنه صالح نقول نظن أنه صالح، أما الفاسق فلا يجوز أبدا مدحه ولذلك قال الرسول عليه الصلاة والسلام في الحديث الصحيح : ( إذا قلتم للمنافق سيدنا فقد أغضبتم الرب تبارك وتعالى ) (إذا قلتم للمنافق سيد ) يعني رئيسنا ومحترمنا ومعظّمنا ( فقد أغضبتم الله تبارك وتعالى ) فهذا المدح أن نقول بعبارة التشكك والتردد أحسبه كذا محله فيمن نراه كذلك فيمن نراه أن يُمدح، أما إن كنا لا نراه كذلك فلا يجوز أن نمدحه إطلاقاً لأننا إذا قلنا أحسبه كذا وكذا والواقع أننا لا نظنه كذا وكذا فقد كذبنا على أنفسنا وكذبنا على غيرنا، لذلك ففي هذا الحديث في الواقع أدب كبير ما أجدرنا اليوم أن نتأدب به في مجتمعنا هذا الذي كاد يصبح مجتمعا غير إسلامي.