تتمة لباب : " باب من زار قوما فطعم عندهم " . شرح حديث ابن عمر رضي الله عنهما : ( وجد عمر حلة استبرق فأتى بها النبي صلى الله عليه وسلم فقال اشتر هذه والبسها عند الجمعة أو حين تقدم عليك الوفود فقال عليه السلام إنما يلبسها من لا خلاق له في الآخرة ... ) حفظ
الشيخ : إن الحمد لله نحمده ونستعين به ونستغفره ، ونعوذ بالله من شرور أنفسنا ومن سيئات أعمالنا ، من يهده الله فلا مُضل له ، ومن يضلل فلا هادي له ، وأشهد أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له ، وأشهد أن محمداً عبده ورسوله .
أما بعد :
فإن خير الكلام كلام الله ، وخير الهدي هدي محمد صلى الله عليه وسلم ، وشر الأمور محدثاتها وكل محدثة بدعة وكل بدعة ضلالة وكل ضلالة في النار :
لا نزال في باب : " مَن زار قوماً أو طعم عندهم " ، وقد كنا قرأنا الحديث الأول والحديث الثاني مِن الباب .
والآن حديثنا اليوم الذي رواه المصنِّف بإسناده الصحيح .
عن عبد الله بن عمر : ( قال : وجد عمر حلة استبرق ، فأتى بها النبيَّ صلى الله عليه وآله وسلم فقال : اشتر هذه والبسها عند الجمعة ، أو حين تقدم عليك الوفود ، فقال عليه السلام : إنما يلبسها مَن لا خلاق له في الآخرة ) .
وتمام الحديث : ( فأتي رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم بحُلل فأرسل إلى عمر بحلة ، وإلى أسامة بحلة ، وإلى علي بحلة ، فقال عمر : يا رسول الله أرسلتَ بها إليّ لقد سمعتك تقول فيها ما قلتَ ، فقال النبي صلى الله عليه وآله وسلم : تبيعها أو تقضي بها حاجتك ) :
هذا الحديث فيه قضيتان :
القضية الأولى : تتعلق بين الرسول صلى الله عليه وآله وسلم وبين عمر حيث رأى عمر حُلة تباع في السوق مِن حرير ، ولعلي ذكرت في الدرس الماضي أن الحُلَّة هما ثوبان وبالتعبير العصري اليوم : طقم .
فأتى عمر بها النبيَّ صلى الله عليه وآله وسلم وعرض عليه أن يشتري هذه الحلة ليتزين بها ويلبسها يوم الجمعة أو حينما يستقبل الوفود القادمين عليه ، فاعتذر الرسول صلوات الله وسلامه عليه عن شرائها بقوله : ( إنما يلبسها من لا خلاق له في الآخرة ) : إنما يلبس ثوبَ الحرير من لا خلاق له في الآخرة ، لا خلاق له في الآخرة يعني : لا نصيب له ، لا حظ له في الآخرة ، وهذا يحتاج إلى شيء مِن البيان لأن ظاهر الحديث : لا حظَّ له في الآخرة بمعنى أنه لا يدخل الجنة ، الذي يلبس الحرير من الرجال لا خلاق له في الآخرة أي : لا يدخل الجنة ، فما معنى الحديث وهل هو على ظاهره أم له معنى آخر ؟!
الجواب : هناك أحاديث أصرح مِن هذا الحديث في نفي دخول مسلم الجنة لسبب ارتكابه معصيةً ما ، مثلًا قوله عليه الصلاة والسلام : ( لا يدخل الجنة ديوث ) ، ( لا يدخل الجنة عاق لوالديه ) ، ( لا يدخل الجنة قتَّات ) يعني نمام وأظن هذا الحديث مرَّ بنا ، والأحاديث على هذا النسق كثيرة وعديدة ، وقد كنا ذكرنا في درسٍ مضى تأويل أو أقوال العلماء في تفسير أمثال هذه الأحاديث : ( لا يدخل الجنة قتات ) نمام إلى آخر ما ذكرنا من الأمثلة ، هل معنى ذلك أنه كفر بهذا العمل ، هل خرج من الدين بسبب هذه المعصية حتى لا يدخل الجنة ؟!
كنا ذكرنا أن معنى هذا الحديث وأمثاله : ( لا يدخل الجنة قتات ) نمام وغيره له تآويل عديدة :
أول تأويل : لا يدخل الجنة مطلقًا إذا استحلَّ هذه المعصية استحلالًا قلبيًا لا يدخل الجنة قتات نمام مطلقًا إذا كان يستحل هذه المعصية بقلبه وليس بفعله فقط ، يعني يقول كما يقول كثير من الناس اليوم ممن أيضًا لا خلاق لهم يقول لك : بلا حلال بلا حرام ، من اليوم ليوم الله فرج ، هذا معناه أنه رجل لا بيحلل ولا بيحرم ، فمن أتى معصية من المعاصي مهما كان شأن هذه المعصية غير مبالي بارتكابها ، غير شاعر في نفسه بإنه عاصي لربه وإنما هو لما بيرتكب هذه المعصية ارتكبها وقد استحلها بقلبه ، فهذا لا يدخل الجنة مطلقاً ، هذا التفسير الأول وعليه يُحمل ظاهر الحديث .
التفسير الثاني : لا يدخل الجنة هذا الجنس من الناس إذا لم يستحل هذه المعصية بقلبه لا يدخل الجنة مع السابقين الأولين ، هذا معنى الحديث ، لا يدخل الجنة مَن استغاب الناس ، هو يدخل الجنة ولكن متأخرًا عن السابقين الأولين ، لماذا ؟
لأنه سيحاسب على معصيته ، فإما أن يُغفر له بسبب من الأسباب الكثيرة التي شرعها الله عز وجل لعباده رحمة بهم / وإما ألا يغفرها الله له فيدخل النار فيعذَّب بقدر ما يستحق مِن العذاب ثم بعد ذلك يخرج من النار ويدخل الجنة ، فإذاً كل حديث فيه نفي دخول الجنة عن مسلم ما بِسبب معصية ما يجب حمل هذا الحديث على معنى مِن ثلاث معاني :
لا يدخل الجنة من فعل كذا مستحلاً له بقلبه .
المعنى الثاني : لا يدخل الجنة مع السابقين الأولين وإنما بعد زمن .
المعنى الثالث : لا يدخل الجنة إلا بعد أن يعذب .
على هذه المعاني الثلاث يفسر هذا الحديث : ( إنما يلبسها من لا خلاق له في الآخرة ) : يعني ليس له رصيد مطلقاً في الجنة هذه في الحالة الأولى إذا استحل لبس الحرير بقلبه وقال بلسانه أو بقلبه فقط دون لسانه : بلا حلال بلا حرام هذا لا يدخل الجنة مطلقاً ولا يرح رائحة الجنة .
المعنى الثاني : ( لا خلاق له ) أي : لا نصيب له في الجنة مع السابقين الأولين .
المعنى الثالث : لا نصيب له في الجنة إلا بعد أن يعذب على لباسه الحرير في الدنيا .
هذا معنى قول الرسول عليه السلام : ( إنما يلبسها من لا خلاق له في الآخرة ).