تتمة شرح حديث أبي ذر رضي الله عنه قال : ( ... يا عبادي كلكم جائع إلى من أطعمته فاستطعموني أطعمكم ) حفظ
الشيخ : وهذا كبعض الفقرات السابقة وبخاصة الفقرة التي قبلها مباشرة وهي قوله تعالى : ( إنكم تُخطِئون بالليل والنهار وأنا أغفر الذنوب ولا أبالي فاستغفروني أغفر لكم ) :
فكما أن الله تبارك وتعالى في هذه الفقرة التي فيها إخبار بأن من طبيعة البشر أن يخطئوا وأن يذنبوا فعليهم أن يتبعوا ذلك بطلب المغفرة من الله عز وجل حتى يغفر لهم ، كذلك هاهنا يقول ربنا عز وجل : إن الإنسان من حيث طاقته ومن حيث قدرته ومن حيث قطع مدد الله عز وجل عنه إنه جائع لا يستطيع أن يقيت نفسه ولا أن يعيلها ولا أن يطعمها ولذلك فربنا عز وجل أيضاً في هذه الفقرة كسابقتها يأمرنا أن نتعاطى السبب كما أمرنا في الفقرة السابقة أن نتعاطى السبب الذي به نستحق مغفرة الله عز وجل .
هنا يقول : ( فاستطعموني أعطعمكم ) أي : فاطلبوا مني الرزق أرزقكم ، وفي الواقع إن هذه الفقرة من هذا الحديث القدسي فاستطعموني أطعمكم له صلة مباشرة بذاك الحديث النبوي الصحيح الذي يقول رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم فيه : ( لو توكلتم على الله حق التوكل لرزقكم كما يرزق الطير تروح خماصاً وتعود بطاناً ) : هذا الحديث فيه ما في هذا الحديث القدسي من الأخذ بالأسباب خلافاً لما يتوهمه بعض الناس حيث يقولون : هذا ربنا عز وجل يرزق الطير ، ويقولون من باب المبالغة وهم مخطئون : هذا ربنا عز وجل يرزق الطير في أوكارها ، هذا خطأ ، ربنا عز وجل حتى الطير أوحى إليها أن تنطلق صباحاً وراء رزقها لتعود إلى أعشاشها ممتلئة بطونها لذلك يقول رسول الله صلى الله عليه وسلم في هذا الحديث : ( لو توكلتم على الله حق التوكل لرزقكم كما يرزق الطير تغدو -صباحاً في الغدوة- خماصاً -جائعة-، وتروح -مساءً- بطاناً ) : مملئة البطون .
إذن التشبيه هنا ليس لأن الطير تظل ملازمة لأعشاشها فيرزقهم الله عز وجل وهم فيها لم يغادروها ، ليس كذلك ، وإنما لو توكلتم على الله حق التوكل قلباً ومن حيث الانطلاق وراء الرزق عملاً حينئذٍ يرزقكم الله تبارك وتعالى ، فإذن الحديث ليس فيه حض على التواكل كما يتوهم بعض الناس وإنما فيه حض التوكل على الله تبارك وتعالى ، مَثَلُه تماماً كمثل الفلاح الذي يحرث الأرض ثم يبذرها ، يلقي البذر فيها ويتعاطاها بالسقي وبالبحش والنبش ونحو ذلك متوكلاً على الله عز وجل ، لا يقول كما نهى عمر عنه حينما قال : " لا يقعدنَّ أحدكم في المسجد يقول : الله يرزقني ، فقد علمتم أن السماء لا تمطر ذهباً ولا فضة " ، إذن الأمر كما قال تبارك وتعالى : (( هو الذي جعل لكم الأرض ذلولاً فامشوا في مناكبها وكلوا من رزقه )) ما قال : كلوا من رزقه وبس قال : (( فامشوا في مناكبها وكلوا من رزقه وإليه النشور )) .
هكذا ربنا عز وجل في هذا الحديث القدسي يحض أيضاً عباده إلى الأخذ بسبب الإطعام من الله لعبده ، ولكنه قبل ذلك يذكّر هذا العبد بأنه ليس في يده شيء وإنما الأمر كله بيد الله تبارك وتعالى ، لذلك يقول : ( كلكم جائع إلا من أطعمته ) فإذن نحن نظل هكذا نفتح أفمامنا ونتلقى الرزق من ربنا فوق السماء ؟ !
لا ، وإنما قال : ( فاستطعموني أطعمكم ) يعني : اطلُبوا مني الطعام ، اطلبوا مني الرزق لأرزقكم أي : طلب الرزق يكون بسببين اثنين :
السبب الأول : وهو سبب مشترك بين المسلم والكافر وبين المسلم الصالح والطالح ألا وهو : الأخذ بالأسباب المادية التي أشرنا إليها آنفاً ، لكن المؤمن يمتاز على الكافر وبخاصة منه المؤمن الصالح بأنه لا يغتر بنفسه كما هو شأن الكافر يعتمد فقط على الأسباب المادية ولا يلتفت إلى خالق هذه الأسباب والمتصرف فيها كما يشاء ، المؤمن ليس كذلك ، وإنما هو يتعاطى السبب ويلتفت إلى الله عز وجل يطلب منه أن يبارك له في كسبه وأن يوسع له في رزقه ، فليس هو كشأن الكافر كل شيء عنده هو السبب المادي ونسي هؤلاء الكفار ربهم تبارك وتعالى ، كمثل ذلك الذي حكى الله عز وجل محاورته للمؤمن حين قال : (( وَدَخَلَ جَنَّتَهُ وَهُوَ ظَالِمٌ لِنَفْسِهِ قَالَ مَا أَظُنُّ أَنْ تَبِيدَ هَذِهِ أَبَدًا * وَمَا أَظُنُّ السَّاعَةَ قَائِمَةً وَلَئِنْ رُدِدْتُ إِلَى رَبِّي لَأَجِدَنَّ خَيْرًا مِنْهَا مُنْقَلَبًا * قَالَ لَهُ صَاحِبُهُ وَهُوَ يُحَاوِرُهُ أَكَفَرْتَ بِالَّذِي خَلَقَكَ مِنْ تُرَابٍ ثُمَّ مِنْ نُطْفَةٍ ثُمَّ سَوَّاكَ رَجُلًا * لَكِنَّا هُوَ اللَّهُ رَبِّي وَلَا أُشْرِكُ بِرَبِّي أَحَدًا * وَلَوْلَا إِذْ دَخَلْتَ جَنَّتَكَ قُلْتَ مَا شَاءَ اللَّهُ لَا قُوَّةَ إِلَّا بِاللَّهِ إِنْ تَرَنِ أَنَا أَقَلَّ مِنْكَ مَالًا وَوَلَدًا * فَعَسَى رَبِّي أَنْ يُؤْتِيَنِ خَيْرًا مِنْ جَنَّتِكَ وَيُرْسِلَ عَلَيْهَا حُسْبَانًا مِنَ السَّمَاءِ فَتُصْبِحَ صَعِيدًا زَلَقًا * أَوْ يُصْبِحَ مَاؤُهَا غَوْرًا فَلَنْ تَسْتَطِيعَ لَهُ طَلَبًا *وَأُحِيطَ بِثَمَرِهِ فَأَصْبَحَ يُقَلِّبُ كَفَّيْهِ عَلَى مَا أَنْفَقَ فِيهَا وَهِيَ خَاوِيَةٌ عَلَى عُرُوشِهَا وَيَقُولُ يَالَيْتَنِي لَمْ أُشْرِكْ بِرَبِّي أَحَدًا )) :
هذا مثل الكافر الذي يعتمد على الأسباب المادية فقط ، أما المؤمن فيفترق عنه ، إنه لا يكفر بالأخذ بالأسباب المادية والسُّنن الكونية الطبيعية التي جعلها الله تبارك وتعالى سبباً للمسبَّبات ، المسلم لا يكفر بهذه الأسباب ، لكن في الوقت نفسه لا ينسى أن خلفها رب الأرباب تبارك وتعالى .
وهذا المؤمن حينما يتخذ الأسباب لو أن هذه الأسباب كانت بدائية أو كانت بسيطة سهلة فالله عز وجل بسبب إيمان هذا المؤمن الذي أخذ بالسبب الذي شرعه الله له ، ربنا عز وجل ييسر له من الأسباب ما لا تطولها أيدي الكفار مهما نبغوا ومهما افتكروا واخترعوا .
كنتُ ذكرتُ لكنَّ فيما بضى قصة ذلك الرجل الذي حكاها لنا رسول الله صلى الله عليه وسلم كما في * صحيح مسلم * قال: ( بينما رجل ممن قبلكم يمشي في فلاة من الأرض إذ سمع صوتاً من السحاب يقول : يعني للسحاب اسقِ أرض فلان ) : فوجد هذا الإنسان الماشي على الأرض والذي سمع الصوت من السماء يخاطب السحاب المشحون بالمطر اتجهي إلى أرض فلان ، فلان ابن فلان ، تعجب هذا الذي يمشي على الأرض خاصة حينما رأى السحاب يتجه يمنة أو يسرة فسار وراء السحاب إلى أن وصل إلى أرض ، بستان متواضع وإذا بالسحاب يفرغ مشحونه من الماء في هذه الأرض في هذا البستان ، فأطل وإذا به يجد رجلاً يعمل في أرضه بمنكاشه أو مسحاته ، فسلَّم عليه بالاسم الذي سمعه من السماء ، فتعجب الرجل ورد عليه السلام وسأله إنه غريب فما الذي عرفه باسمه ؟!
فذكر له أنه سمع من السحاب صوتاً يقول : ( اسق أرض فلان فعرفت أنك أنت ، لأني رأيت السحاب يلقي مشحونه من المطر على أرضك فبما نلت ذلك ؟ -هنا الشاهد- قال : والله لا أعلم أمراً أستحق من ربي أن يكرمني كرامتي هذه سوى أن عندي هذه الأرض وأني أزرعها ثم أحصدها وأجعل حصيدها ثلاثَ أثلاث : ثلث أعيده إلى الأرض ) : حتى يتم رزقه ماشي بسببه .
( وثلث أنفقه على نفسي وعيالي ، وثلث أتصدق به على الفقراء والأمرامل قال له : بهذا ) : بهذا اكتسبت أن الله عز وجل سخر لك السماء خاصة فقط .
إذن هذا الحديث القُدسِي حين يقول فيه تبارك وتعالى : ( يا عبادي كلكم جائع إلا مَن أطعمته فاستطعموني أطعمكم ) : يُلفِت النظر إلى أمرين اثنين ، أحدهما أهم من الآخر أُلخص ما قلت آنفاً :
الأمر الأول : أن المسلم يجب أن يعتمد على الله تبارك وتعالى في كل شيء ، في أن يهديه ، في أن يغفر له ، في أن يطعمه ، هذا الأمر الأول الاعتماد على الله عز وجل اعماداً كلياً .
الأمر الثاني : أن هذا الاعتماد وهذا التوكل على الله لا ينافي الأخذ بالأسباب ، الأخذُ بالأسباب هو مِن الشرع ، لذلك قال تبارك وتعالى في الآية المعروفة : (( وإذا عَزمت فتوكل على الله )) : وإذا عزمتَ يعني صمَّمت وخططت لتنفيذ أمر ما فتوكل على الله ، ليس توكل على الله بمعنى التواكل وعدم الأخذ بالأسباب ، لا ، إنما اتخذ الأسباب وتوكل على رب الأرباب .
أكتفي الآن من التعليق على هذه الفقرة على اعتبار أنَّ عندنا سؤالاً من الدرس السابق ، وأظن أنه سيأخذ قِسطاً وافراً من الوقت ، لأنه يحتاج إلى شيء من البسط والبيان .