حديث الشيخ عن قصة الورقة الضائعة عند تكليفه لأحد النساخ أن ينسخ له كتاب : * ذم الملاهي * لأبي الدنيا من المكتبة الظاهرية وجرده لمئة وخمسين مجلداً من المجاميع. حفظ
السائل : طيب نحن كنا توقفنا في المرأة الماضية على الورقة.
الشيخ : الورقة الضائعة ؟
السائل : الورقة الضائعة.
الشيخ : ألا يكفي أن أُحيلك على الكتاب الذي صار في ملكك ، أم لا بد أن تسمع من فمي ؟
السائل : إي نعم .
الشيخ : هكذا ترغب ، الحقيقة أنني كنت أُصبت بعرض في عيني اليمنى ، كنت إذا نظرت إلى الجدار الأبيض فأرى خيال شيء في عيني كالذبابة يتحرَّك ، ولما عرضت نفسي على الطبيب قال : هذا يسمَّى عندهم بالذبابة الطائرة ، وهذا عبارة عن عرق دقيق متفسِّخ ، وخرج منه قطرة دقيقة جدًّا مِن الدم ، فنزل على العين ، فهي التي تراها تذهب وتجيء ، فالمهم سألني : ما عملك ؟ قلت له : ساعاتي . قال : هذا هو ، جاءك هذا من التعب ، فبيَّنت له واقعي أني ساعاتي ومُطالع كثيرًا ، فطلب مني الراحة مقدار ست أشهر ، وبعض القطرات والعلاجات .
فرجعت إلى دكاني وبدأت أجلس في الدكان ، لا أعمل شيئاً لا في المهنة ولا في القراءة والمطالعة ، مضى عليَّ نحو أسبوع وأسبوعين ، بدأ الملل يتسرَّب إليَّ ، فأخذت أمنِّي نفسي وأعلِّلها بشتى التعليلات، وخطر في بالي أن في المكتبة الظاهرية مجموع لرسائل عديدة إحداها في *ىذم الملاهي * لابن أبي الدنيا ، فخطَّطت في ذهني أن أكلِّف الخطاط هناك النَّسَّاخ أن ينسخ هذه الرسالة ، ولبينما ينتهي من النسخ بكون أنا ربما استجممت واسترجعت شيء من راحتي وسلامة عيني .
وذهبت إلى المكتبة الظاهرية وكلَّفت صاحبنا هذا في أن ينسخ الرسالة ، وبدأ فعلًا ، لما وصل إلى منتصفها جاء إليَّ ليقول : إن الرسالة فيها خرم فيها نقص ، فذهبت إلى هناك إلى المكتبة ، اطَّلعت على الرسالة فعلاً فيها نقص ، قلتُ له : امضِ في سبيلك ، ويخلق الله ما لا تعلمون ، انتهى الرجل من نسخ الرسالة .
وكان كما يقولون : عقلي الباطن يشتغل ليلًا نهارًا في البحث أين ذهب هذا النقص ، فافترضت أن هذه الرسائل لما جُمعت في هذا المجلد كغيره من المجلدات ربما سقط من المـــُجَلِّد لهذا المجلَّد الورقة أو الورقتان المفقودتان ، فخيَّطها في مجموعٍ آخر ، فإذاً لا سبيل إلا للبحث في المجاميع الموجودة في المكتبة الظاهرية ، وكتب المكتبة الظاهرية المخطوطة هي مرتبة على العلوم كان هو النظام العام في كل مكاتب الدنيا ، إلا أن هناك نحو مائة وخمسين مجلدًا تُسمَّى بـــــ " المجاميع " ، وهو اسم على مسمَّى ، لأنه كل مجمَّع يجمع عديدًا من الرسائل مختلفة النظام والترتيب والمواضيع ، ولذلك وضعوها تحت عنوان " المجاميع " ، فقلت في خاطري الأحسن البدء بهذه المجاميع ، فبدأت ، ثم مما ييسر البحث أن هذه المجاميع كما أنَّها مختلفة المواضيع والمؤلفين فهي مختلفة نوعية الورق أيضًا ، فتجد شيء طويل وشيء قصير وشيء أبيض وشيء رمادي وشيء أزرق أحيانًا وهكذا ، فمن السهل أنه الإنسان يقلِّب هذه المجاميع ، هذا كله كان يسهِّل لي طريقة البحث .
فبدأت مجلد أول ثاني ثالث ما عاد أذكر بالضبط وإذا بي أعثر على عنوان رسالة ، والله هذه رسالة مهمَّة ، لكن أجد الجزء الثاني ، لو كان الجزء الأول كان كمُل الأمر ، وكنت أسجله عندي لَيوماً ما ننسخه ونستفيد منه ، فلما أجد الجزء الثاني أو الثالث أعرض عنه ، ومضيت بعد عديد من المجلدات وإذا بي أعثر على المجلد الأول لرسالة من تلك الرسائل ، فأتحسَّر وأندم وأقول : ليتني كتبت عنوان ورقم الجزء الثاني وهَيْ الجزء الأول ، إذًا أخذتها عبرة ، فبدأت أسجِّل أيَّ شيء يعجبني ولو كان ناقصًا ، وتُلاحظ هنا بأنه كنت في شيء وصرت في شيء آخر ، كنت أبحث عن الورقة الضائعة وإذا أنا الآن أسجل العناوين التي هي كنوز تُعتبر ، ولو كانت يعني غير تامة ، فالمهم انتهيت من مائة وخمسين مجلد وما حصَّلت على الورقة الضائعة ، لكني خرجت بربح كبير جدًّا من الناحية العلمية .