تتمة الشيخ للحديث عن تفتيشه عن الورقة الضائعة في مخطوطات المكتبة الظاهرية وما حصل له من هذا التفتيش من فوائد كثيرة. حفظ
الشيخ : فقلت في نفسي : لا بد مِن أن تتمَّ مسيرتك هذه ، وذلك بالبحث عن الورقة في مجلدات الحديث ، ومجلدات الحديث عِندنا في المكتبة الظاهرية أكثر مِن خمسمائة مجلد ، فبدأت أبحث ، وهنا البحث عن الورقة الضائعة أسهل بكثير ، لأن المجاميع تبقى صغيرة الحجم مِن حيث الطول والقصر ، أما موضوع علم الحديث ففيه أكثرها كبيرة ، والورقة الضائعة قصيرة ، لكن أنا دخلت في بحث آخر وهو اقتناء وتحصيل على مثل هذه المواضيع والكتب النفيسة ، فبدأت آخذ عناوين ولو كان كتاب مجلد كبير ، وأسجل عندي في مسودات ، وانتهيت مِن خمس مائة مجلد دون أن أعثر على الورقة الضائعة.
وكما يقولون عندنا في الشام : " بلا طول سيرة " يعني باختصار : أتيتُ على كل المخطوطات الموجودة في المكتبة الظاهرية ، وأنا طامِع أنه لعله في العلم الفلاني لعله لعله ، لأنه قضية خطأ من المـــــُجلِّد ، فأتيت على كتب السيرة وكتب التاريخ كتب الأدب كتب التصوف ، يعني كل العلوم التي فيها كتب مخطوطة ، ويسَّر الله عز وجل لي هذا البحث بحيث لا يتيسَّر إلا لموظَّف رسمي مكلَّف ، وصل التيسير إلى درجة أنني كنت أضع السُّلَّم على الخزائن ، لأنه في رفوف عالية لا تطولها اليد ، فأقف على السُّلم ، والرَّف مثلًا - طوله متر -، أبدأ من هنا أسحب أنتهي من هنا وأنا على السلم ، إذا وجدت شيئًا نفيسًا نزلت وسجَّلت ، ثم تابعت مسيرتي ، وهكذا مررتُ على المكتبة كلها وما عثرت على الورقة الضائعة ، لكني شاعر بأني أنا الرابِح ، صار عندي مئات الأسماء والعناوين مِن الكتب النفيسة .
في الأخير أعلم عندهم شيء يسمَّى بـ " الدَّست " أو " الدَّشت " لغة ، وهي عبارة عن أوراق مكدَّسة في خزائن ما أحد يتردَّد عليها أو يمد يده إليها ، فسألت الموظف المختص ، وكان يعني ممن يسَّره الله لخدمتي العِلمية ، فكان يتجاوب معي ، قلت له : يا أبو مهدي ، وين الدَّشت هذا ؟ قال لي : هَيْ ورَّاني خزانتين ثلاثة ، فأخذت أبحث في هذه الورقات الفلتانِة فما وجدت شيئًا ، لكني وجدت أيضًا نفائس ، ومنها عندنا في المكتبة الظاهرية نسختان مِن * مسند الشهاب * للقُضاعي ، وكلتاهما ناقصتان ، إحداهما شرقية والأخرى مغربية ، والمغربية خطُّها مغربي جميل جدّاً ومُعتنى بها من بعض الحفَّاظ أهل الحديث ، ومكتوب بجانب كثير أن لم أقل كل الأحاديث : ضعيف موضوع إلى آخره ، لكن ينقص منها الكرَّاس الأول ، والنسخة الأخرى مشرقية ما لنا ولها الآن .
وإذا بي أُفاجئ بهذا " الدَّشت " وجدت الكرَّاس الناقص من النسخة المغربية ، وبذلك تمَّت النسخة النفيسة ، فأخذتها فرِحًا مسرورًا وانطلقت إلى المدير المسؤول عن المخطوطات ، قلت له : هذا الكرَّاس مِن " الدَّشت " ، وهذا هو الكتاب الموضوع عندكم في الفهرس أنه مجهول الهوية لا يُعرف مين المؤلف وإيش الكتاب ، فقلت له : هذا هو الكتاب وهذا المؤلف ، وما اهتم في ذلك ، لأنه كما يقولون عندنا في الشام : " كلٌّ مين يغني على ليله ! " ، فأنا بهمني هذا البحث هو ما بهمُّه .
ثم دارت السنين والأيام وإذا به أخونا عبد المجيد السلفي يقوم بطباعة تحقيق هذا الكتاب من هذه النسخة ، والشيء بالشيء يُذكر لتعرف طبائع الناس ، طبع الكتاب * مسند الشهاب * للقضاعي في المكتب الذي يعمل فيه شعيب.
السائل : مؤسسة الرسالة .
الشيخ : نعم ؟
السائل : مؤسسة الرسالة ؟
الشيخ : مؤسسة الرسالة ، فأنا كنت كتبت للتاريخ على هذا الكرَّاس : " استخرجه من الدَّشت ناصر " ، كلمة ناصر فقط ، فهو ماذا فعل ، وضع ورقة وغطَّى هذه الحقيقة ، والآن تجد صورة للعنوان الرئيسي لهذا الكتاب في نسخة * مسند الشهاب * التي حقَّقها أخونا حمدي ومطموس على هذه الحقيقة العلمية ، ما الذي يدفعه لذلك ؟ الجواب تعرفه !
الشاهد : هذا من النفائس التي حصَّلت عليها في هذا البحث.
وأخيرًا يئست من الحصول على الورقة الضائعة ، لكن ما ندمت أبداً ، لأن المكسب كان أكثر مما أتصور .
المهم رجعت فيما بعد إلى الأسماء التي كنت سجَّلتها لهذه المؤلفات والمؤلفين فكتبتها مِن جديد على بطاقات ، ورتَّبت البطاقات على أسماء المؤلفين كل مؤلف وما له .
السائل : هذا مجهود لك لنفسك فردي يعني ؟
الشيخ : طبعاً فردي ، أنا ما عملت يوماً ما موظَّفًا في دائرة من الدوائر ، وهذا من فضل الله عليَّ .
ثم بعد أن انتهيت مِن ترتيب هذه القصاصات على أسماء المؤلفين ، رتَّبت المؤلفات على الترتيب الهجائي ، وكان من ذلك * فهرس لمنتخبات لمخطوطات المكتبة الظاهرية * .
ثم جاءت المرحلة الأخيرة وهي الثمرة المباركة من ذاك الجهد الأول ، فبدأت أقرأ هذه المخطوطات وأستخرج منها الفوائد الحديثية بأسانيدها ، وعندي الآن وهي التي تُساعدني على تغذية مشاريعي العلمية نحو أربعين مجلد ، فيها الأحاديث التي استخرجتها من هذه المخطوطات بأسانيدها ، ورتَّبتها لتسهيل المراجعة أيضًا على الحروف الهجائية ، فهذا مختصر عن قصة الورقة الضائعة ، ولكي لا نضيِّع شيئًا مِن الوقت في أمر قد لا يهمك ، منشوف إيش عندك من سؤال آخر .