باب الإقرار. حفظ
الشيخ : ثم قال المؤلف -رحمه الله- : " باب الإقرار " :
الإقرار: مصدر أقر، ومعناه: الاعتراف بالحق الذي عليه سواء كان هذا الحق مالياً أو غير مالي، فالإقرار هو الاعتراف اعتراف الإنسان بالحق الذي عليه.
واعلم أن الإنسان إما أن يُقر بحق عليه، أو يُقر بحق له، أو يقر بحق لغيره على غيره، كم الأقسام؟
الطالب : ثلاثة .
الشيخ : ثلاثة، إذا أقر بحق له فهو مقر وشاهد على نفسه، وإن أقر بحق على غيره، فهو مدعٍ على غيره، وإن سماه إقرارًا فهو دعوى، وإن أقر بحق لغيره على غيره فهو شاهد، شهد لفلان على فلان.
طيب الإقرار بالحق الذي على الإنسان واجب، لقوله تعالى: (( يا أيها الذين امنوا كونوا قوامين بالقسط شهداء لله ولو على أنفسكم )) .
فيجب على الإنسان أن يُقر بالحق الذي عليه، ومن أَقر أُلزم بمقتضى إقراره قليلاً كان أو كثيراً، بشرط أن يكون ممن يَنفذ إقراره فيما أقر به، إذن لا بد أن يكون بالغاً عاقلاً رشيداً إذا كان إقراره بالمال أو بما يُقصد به المال، لأن هذا هو جائز التصرف.
فلو أقر الصبي الصغير قال: في ذمتي لفلان ألف ريال، وهو صغير، فإن إقراره لا يصح، لأنه لو تصرف بألف ريال ما قُبل، أو ما صح تصرفه، فكذلك إقراره، فلابد من أهلية المقر فيما أقر به، وإلا فلا يُقبل.
طيب إذا رجع عن إقراره فهل يُقبل منه الرجوع، نقول: أما في حق الآدمي فلا يُقبل منه الرجوع، فلو قال: في ذِمتي لفلان مئة درهم، ثم رجع، وقال: رجعت في إقراري وليس في ذمتي له شيء، فإن إقراره لا يُقبل، لأنه ثبت حَق الآدمي عليه، والآدمي حقه مبني على المشاحَّة، ولا يمكن أن يقبل الرجوع، إلا إذا وافق صاحب الحق على الرجوع فالحق له، وأما في حق الله فيُقبل الرجوع في غير الحد، مثل أن يقول: أنا لم أؤدِ الزكاة، ثم رجع وقال: قد أديتها، فإننا نقبل منه الرجوع، ونكل أمره إلى دينه، ولا نُلزمه بأداء الزكاة.
وكذلك لو قال: أنا لم أصم القضاء الذي عليَّ من رمضان، ثم رجع وقال: قد قضيته فإننا لا نطالبه.
أما في الحدود فقد اختلف العلماء في ذلك: هل يقبل رجوعه إذا أقر بما يوجب الحد أو لا يقبل؟ لو أقر بالزنا، ثم رجع وقال: إنه لم يزن، فهل يقبل رجوعه ويرفع عنه الحد أو لا يقبل؟
هذا محل خلاف بين العلماء، فمنهم من قال: يقبل، ومنهم من قال: لا يقبل على الإطلاق، يقبل مطلقاً أو لا يقبل مطلقاً.
ومنهم من فصل فقال: إن قامت قرينة على كذبه في رجوعه فإننا لا نقبل الرجوع، وإن لم تقم قرينة فإنه يُقبل، مثال ذلك: لو قامت قرينة على أنه عُذب عند الإقرار حتى أَقر بغير حق ثم رجع فهنا نقبل رجوعه، ولو قامت قرينة على أَن رجوعه ليس بصحيح بحيث يكون قد وصفَ القضية فقال مثلاً: أنا قرعت الباب على هذه المرأة في الساعة الواحدة ليلاً، ودخلت عليها وفعلت فيها الفاحشة، وخرجت في الساعة الرابعة ليلاً، ونمت على سرير صفته كذا وكذا، وكانت الحجرة صفتها كذا وكذا، طولاً وعرضاً، ثم بعد هذا كله قال: رجعت عن إقراري، هل نقبله؟
أبداً لا نقبله، لأن هذه قرائن كلها تدل على كذبه في الرجوع.
طيب ما دليل القائلين بقبول الرجوع فيما يوجب الحد؟
دليلهم: حديث ماعز بن مالك رضي الله عنه أنهم لما بدؤوا يرجمونه وأذلقته الحجارة هرب حتى أدركوه وأكملوا عليه، فقال النبي صلى الله عليه وسلم: ( هلا تركتموه يتوب فيتوبَ الله عليه )، فقالوا: إذا كان النبي صلى الله عليه وسلم قبل توبة هذا الرجل، فقبول الرجوع كذلك، ولاشك أن هذا قياس مع الفارق العظيم، قياس مع الفارق، لأن المقر أراد رفع الحكم مِن أصله، أما هذا فقد بقي على إقراره بالزنا، لكن أراد المخرج بماذا ؟
بالتوبة، أراد المخرج بالتوبة، فقال: ( هلا تركتموه يتوب فيتوب الله عليه ) ، لو أن المقر هذا جاءنا وقال: أنا أقررت وأنا لازلت على إقراري، لكن أنا دعوني أتوب إلى الله عز وجل ولم تبلغ الحدود إلى السلطان، فإننا ندعه، ونقول: دعوه يتوب فيتوب الله عليه، أما إذا وصلت إلى السلطان فلا يمكن ترفع، لأن الله قال: (( إلا الذين تابوا من قبل أن تقدروا عليهم )) .
على كل حال: لا دلالة في حديث ماعز على قبول رجوع المقر، وقد أنكر شيخ الإسلام ابن تيمية دلالة حديث ماعز على ذلك، وقال: " إنه لو قبل رجوع المقر بالحد عن إقراره ما أُقيم حد في الدنيا، لأن غالب الحدود في الزنا إنما تثبت عن طريق الإقرار " ، بل إن شيخ الإسلام ابن تيمية -رحمه الله- في كتاب *منهاج السُنّة* قال: " إنه لم يثبت الحد بالبيّنة إلى يومنا هذا " ، كل الحدود التي أُقيمت في الزنا إنما كانت بالإقرار، وذلك لأن الشهادة بالزنا ما هي هينة، لا بد أن يتفق الشهود على الشهادة، ولا بد أن تكون الشهادة على أنهم رأوا ذكره في فرجها، من يرى هذا؟!!
صعب، حتى لو رأوه فوقها ما يستطيعون أن يقولوا: إن ذكره في فرجها، ولذلك ما ثبت حد زنا بشهود أبدًا ولا أظنه يثبت.
لكن لو قال لنا قائل: يمكن الآن يثبت بإيش؟
بالتصوير، قلنا: ولا يثبت بالتصوير، لأن هناك ما يسمى بالدملجة، أو الدبلجة والله ما أدري إيش هي، نعم، المهم يمكن أن يأخذوا من هذا ومن هذا ويكونون صورة، فلسنا على يقين حتى في التصوير مشكل، والحد لابد فيه من ثبوت، فإذن إذا قلنا بأنه لابد من أن يقيم المقر على إقراره، وفتحنا باب الرجوع، فإنه لا يمكن أن يقام حد بإقرار على سبيل الوجوب، لأن كل مقر يمكنه أن يرجع لاسيما في عهدنا الحاضر، يُحبس ويُلقن الرجوع ثم بعد أن يكتب إقراره وإمضاؤه على الإقرار ويثبت كل شيء ويُحبس يقول له الذين في الحبس: تعال وين رايح ؟! أنكر قل : هونت عن الرجوع رجعت عن إقراري فيأتي من الغد ويقول: رجعت عن إقراري، فماذا نقول له؟ نقول: في أمان الله رح، بعد العمليات كلها وإضاعة الوقت والإثباتات عليه يرجع في إقراره ويذهب.
على كل حال: نحن ما يهمنا الآن الإقرار الرجوع عنه ، قلنا : إذا كان في حق الآدمي فلا يقبل الرجوع، وفي حق الله من العبادات الخاصة يُقبل الرجوع، لأن هذا شيء بينه وبين الله ، في الحدود فيه خلاف بين العلماء ، والراجح أنه لا يُقبل الرجوع ما لم يُقِم بيّنة تؤيد رجوعه ، بحيث يقيم بينة بأنه أُجبر أو أُكره على الإقرار أو تقوم قرائن قوية بأنه أكره على الإقرار فحيئذٍ يقبل رجوعه ، لأن أصل إقراره لم يثبت ثبوتاً شرعياً تبرأ به الذمة .