عن أبي ذر رضي الله عنه قال : قال لي النبي صلى الله عليه وسلم : ( قل الحق ولو كان مراً ) . صححه ابن حبان في حديث طويل . حفظ
الشيخ : قال: " وعن أبي ذر رضي الله عنه قال: قال لي النبي صلى الله عليه وسلم: ( قل الحق ) " قل : فعل أمر، والأمر للوجوب، ( قل الحق ولو كان مراً ) : يعني ولو كان القول مُرًّا، وهذا أحسن من أن تقول: ولو كان الحق مرًا، لأن الحق وإن كان مر المذاق في أول وهلة لكن عاقبته أن يكون حلوًا، فإذا قلنا: قل الحق ولو كان القول مرًا، صارت المرارة وصفًا للقول، لا للمقول، لأن المقول حق، والحق حلو.
وقول النبي عليه الصلاة والسلام: ( قل الحق ) ما هو الحق؟
الحق ما وافق الواقع، لأن ما وافق الواقع فهو ثابت، فيكون حقًا.
والحديث يدل على وجوب قول الحق ولو أذاق الإنسان مرارة قوله، فلو أن رجلًا جنى على شخصٍ مثلًا بقطع يد إنسان عمدًا، ثم أُمسك الجاني، وليس للمجني عله بينة، فإن بإمكان الجاني أن يرفع القطع بماذا؟
بالإنكار، فيقول للمدعي: هات بينة أنني أنا الذي قطعت يدك، لكن إذا قال: نعم، أنا الذي قطعت يده، فهذا القول سيكون مُرًا عليه، لكنه حق، كيف يكون مرًا؟
لأنه إذا أَقرّ فسوف تُقطع يده، وهذا لاشك أنه مُرّ على الإنسان وصعب، لكن المؤمن لا يهمه أن يفوت عضو منه في الدنيا لبقاء حسناته في الآخرة،
وظاهر الحديث أيضاً أو عموم الحديث يقتضي أيضًا أن يقول الحق ولو مرًا في غير الإقرار ، مثل أن يقول كلمة حق عند سلطانٍ جائر ، فإن هذا الحق سيكون مُرًا، لأن السلطان الجائر يخشى من بطشه إذا قيل الحق عنده وهو لا يوافق هواه، أليس كذلك؟
الطالب : بلى .
الشيخ : ولهذا ورد في الحديث: ( أعظم الجهاد كلمة حق عن سلطان جائر ) . ويشمل هذا الحديث أيضاً شهادة الإنسان على أبيه، وعلى ابنه، وعلى أخيه، وعلى قريبه، لأن شهادة الإنسان على هؤلاء ستكون مُرّة، لكنها قول حق، وقد أمر النبي عليه الصلاة والسلام بقول الحق، ولو كان القول مرًا.
ويؤخذ من مفهوم الحديث: وجوب اجتناب قول الباطل، ولو كان حُلوًا أليس كذلك؟
الطالب : بلى .
الشيخ : فلا يجوز للإنسان أن يشهد لأحد من أقاربه بشيء هو يعلم أنه كاذب، وإن كان هذا قد ينال لذة ومتعة بهذه الشهادة للقريب، لكن ذلك خلافُ الحق، فلا يجوز له أن يشهد به.
ومن ذلك أيضاً: إذا كان في قول الإنسان الباطل انتصار لنفسه، كما يجري بين الطلبة في المناظرات، فتجد الإنسان يَعدل عن قول الحق إلى قول الباطل مِن أجل أن ينتصر لنفسه، فيجد في ذلك متعة: أنه انتصر ولو بالجدال بالباطل، وهذا حرام، لا تقل الباطل ولو كان حلوًا، لأن الأمر بقول الحق ولو كان مرًا يدل على النهي عن قول الباطل ولو كان حلواً.
ومن ذلك ما يفعله بعض المنافقين عند السلاطين والولاة: يأتون إليهم يما يُخالف الواقع مما يكون في رعيتهم مِن أجل أن يُدخلوا عليهم السرور في تلك اللحظة، فيجدون في ذلك متعة، أنهم قالوا شيئًا يُعجب رئيسهم ومديرهم، وما أشبه ذلك، وإن كانوا يعلمون أن هذا خلافُ الواقع، فهؤلاء قد جانبوا الصواب، وخالفوا ما أمر به رسول الله صلى الله عليه وسلم، لأن الواجب أن تجتنب قول الباطل مهما كان، ولو كان في القول به إرضاء أبيك أو أخيك أو ابنك أو خالك أو ما أشبه ذلك، وأن تقول الحق ولو كان مراً فيه إغضاب أبيك أو أخيك أو ما أشبه ذلك، ( قل الحق ولو كان مراً ).
طيب ما وجه دخول الإقرار في هذا الحديث؟
وجه ذلك: أن المقرّ بما عليه يجد أن في هذا الإقرار مرارة، لكن يجب عليه أن يقول به، ولو كان مراً.
عدل المؤلف عن حديث أبين في الإقرار من هذا، وهو ما يُروى عن النبي صلى الله عليه وسلم أنه قال: ( لا عُذر لمن أقر ) : هذا الحديث روي عن النبي عليه الصلاة والسلام ، لكنه ضعيف ، إلا أن الفقهاء -رحمهم الله- يعبرون به في كتبهم ، ويقولون: ( لا عذر لمن أقر ) .
طيب وإذا أقر الإنسان بما عليه فهل يجب أخذه بمتقضى هذا الإقرار؟
الجواب: نعم، هل يقبل رجوعه عن هذا الإقرار؟
في ذلك تفصيل، إن كان في حق المخلوق فإن رجوعه لا يقبل، وإن كان في حق الخالق ففيه خلاف وتفصيل بين أهل العلم، وأظن أني أشرت إليه فيما سبق.