وعن ابن عمر عن أبيه رضي الله عنهما عن النبي صلى الله عليه وسلم قال : ( الميت يعذب في قبره بما نيح عليه ) . متفق عليه . ولهما نحوه عن المغيرة بن شعبة . حفظ
الشيخ : رحمه الله تعالى " وعن ابن عمر عن أبيه رضي الله عنهما عن النبي صلى الله عليه وسلم قال : ( الميت يعذب في قبره بما نيح عليه ) متفق عليه، ولهما نحوه عن المغيرة بن شعبة رضي الله عنه ".
قوله : ( الميت يعذب في قبره ) الميت مبتدأ وهو عام وخبره يعذب والباء في قوله : ( بما ) للسببية وما يحتمل أن تكون اسمًا موصولًا أي : بالذي نيح عليه به، ويحتمل أن تكون مصدرية أي : بالنوح عليه هذا إعراب الحديث، أما معناه فإن النبي عليه الصلاة والسلام يخبر بأن الميت إذا ناح عليه أهله فإنه يعذب في قبره، والنياحة سبق لنا تعريفها أنها صوت بالبكاء صوت خاص يشبه نوح الحمام وهو يشبه التطريب بالبكاء بالنسبة للآدميين.
وقوله : ( يعذب بما نيح عليه ) يقول المؤلف : " ولهما " أي : للبخاري ومسلم " عن المغيرة بن شعبة نحوه " وكذلك صح عن عمر في " صحيح مسلم " عن النبي صلى الله عليه وسلم نحو هذا وفي لفظ لمسلم من حديث عمر : ( يعذب ببعض بكاء أهله عليه ) والآن هذا الحديث يدلنا على أن النوح كما أنه سبب للعن والطرد بالنسبة للنائحة فهو أيضًا سبب لتعذيب الميت به، وهذا الحديث مما أشكل أشكل على الصحابة فمن بعدهم حتى إن أم المؤمنين رضي الله عنها عائشة أنكرت ذلك وقالت : ( إنكم ما كذبتم ولا كذبتم ولكن السمع يخطئ ) فنسبت عمر وابنه إلى الخطأ في السمع والوهم واستدلت لإنكارها بقوله تعالى : (( ولا تزر وازرةٌ وزر أخرى )) وهذه القاعدة الكلية العامة ثابتة في الكتب السابقة وفي كتابنا القرآن الكريم قال الله تعالى : (( أم لم ينبّأ بما في صحف موسى * وإبراهيم الذي وفَّى * ألا تزر وازرةٌ وزر أخرى )) فهذا متفق عليه في الشرائع أن الوازرة يعني النفس التي تتحمل الوزر لكونها مكلفة لا تحمل وزر غيرها إلا إذا كانت هي السبب في هذا الوزر فإنها تعاقب بمثل العامل لقول النبي عليه الصلاة والسلام : ( من دل على خير كفاعله ) وكذلك ( من سن في الإسلام سنة سيئة فعليه وزرها ووزر من عمل بها إلى يوم القيامة ) ولهذا كان ابن آدم الذي قتل كان عليه كفل من كل نفس قتلت بغير حق، لأنه أول أول من سن القتل والعياذ بالله إذًا نقول : هذا الحديث ظاهره مشكل بالنسبة للآية الكريمة.
وعائشة رضي الله عنها قالت : ( إن الرسول صلى الله عليه وسلم مر بيهودية تبكي فقال : إنها لتبكي وإن الميت يعني اليهودي ليعذب في قبره ) فاستدلت بالآية وبالحديث فهي رأت رضي الله عنها أن هذا الحديث الذي معنا حديث ابن عمر وحديث المغيرة وحديث عمر مخالف للقرآن وروت أن الرسول عليه الصلاة والسلام قال ذلك لامرأة يهودية كان أهلها يبكون عليها وهي تعذب في قبرها حطيتو بالكم ونحن نقول : أما توهيمها الرواة فهو في غير محله لأن الأصل في الثقة إيش ؟ عدم الوهم هذا هو الأصل ولاسيما مثل عمر وابن عمر وهذا المغيرة بن شعبة وغيرهم قد يكون قد سمعه، لكن ما حدث به أحدًا، وأما استدلالها بالحديث فنحن نقبله منها على العين والرأس بأن الرسول عليه الصلاة والسلام قال ذلك في هذه المرأة اليهودية، لكن لا يمنع أن يكون قال قولًا آخر في موضع آخر فهي روت ما روت وعمر وابنه رويا ما رويا عن النبي صلى الله عليه وسلم وما سمعاه منه، وحينئذ يكون ردها لهذا الحديث لوجود المانع وهو : (( ولا تزر وازرةٌ وزر أخرى )) غير صحيح وردها له لوجود حديث آخر أيضًا غير صحيح، السبب أن القصة متعددة فهي روت قصة أخرى غير التي حدث بها النبي عليه الصلاة والسلام وسمعها عمر وابنه وحينئذ يبقى علينا الآن الإشكال لا زال باقيًا بالنسبة لظاهر الحديث مع ظاهر الآية (( ألا تزر وازرةً وزر أخرى )) (( ولا تزر وازرةٌ وزر أخرى )) آيتان فما هو الجمع ؟ اختلف العلماء في الجمع يعني بعد أن نقول : إن الحديث ثابت نحتاج الآن إلى الجمع، أما على رأي من أنكر الحديث كعائشة فإنه لا يحتاج إلى الجمع ما نحاول الجمع لأنها رأت أن الآية مرجحة على هذا الحديث وأن هذا وهم، لكن نحن نرى أن الحديث صحيح ولكن يبقى النظر في الجمع بينه وبين الآية اختلف العلماء في ذلك على عدة أقوال : فمنهم من قال : إن الجمع هو أن الحديث إنما كان فيمن أوصى بالنوح هو قال لأهله إذا مت فنوحوا علي لا تدعوني لا أنوح لا تهتموا بي إذا لم تنوحوا علي قال الناس : إنهم لم ها لم يهتموا به ولم يبالوا بموته ولم يصابوا بفقده ولكن أوصيكم بأن تنوحوا علي، ومعلوم أنه من أوصى بالإثم فهو آثم، فإذا نفذ فإنه يأثم هذا وجه وهذا الوجه كما تعلمون عند التأمل عليل جدًّا، لأن الحكم أنيط بالنوح والميت بمجرد وصيته بالإثم يكون آثمًا سواء ناحوا أو لم ينوحوا، فلا يمكن أن نلغي الوصف الذي علق به الحكم في كلام الرسول عليه الصلاة والسلام ونعتبر وصفًا جديدًا لم يدل عليه الحديث، وقال بعض أهل العلم : إن هذا في رجا اعتاد أهله وذووه أن ينوحوا على أمواتهم وهو يعلم بهم ولا ينهاهم فيكون كأنه مقر لهم، لأنه يعلم بمقتضى عادتهم أنه إذا مات سوف ينوحون عليه قالوا : ويجب على من كانت هذه عادة أهله وذويه يجب عليه أن ينهاهم عند موته ويقول : لا تنوحوا علي كما تنوحون على أمواتكم فإن لم يفعل فهو آثم ويعذب في قبره وعلى هذا فيكون هذا الرجل عذب في قبره على ترك إنكار المنكر بعد موته نعم بعد موته المنكر ما فعل إلا بعد موته لأنه من الجائز ألا ينوحوا عليه، لأن هذا أمر عادي والعادي قد يتخلف فهم يؤثمونه لأنه لم يوص بتركه وهم من عادتهم أن ينوحوا على أمواتهم هذان قولان مع قول عائشة فتكون ثلاثة، والقول الرابع : يقولون : إن الحديث يقول : ( إن الميت ليعذب ) ليعذب والعذاب نوعان : عذاب على عقوبة وعذاب بشيء لا يلائم الإنسان فيتعذب به وليس فيه عقوبة، لكن يتعذب بمعنى أنه يهتم ويحزن وما أشبه ذلك، فأما على الأول أن يكون العذاب بمعنى عقوبة على فعل معصية فهذا بالنسبة للميت وارد ولا لا ؟ غير وارد لأنه ما فعل ذنبًا إنما فعل الذنب غيره، وأما الثاني : وهو الاهتمام بالشيء والتألم منه بدون أن يمس بعذاب فهذا يمكن قالوا : ومن هذا النوع قول النبي عليه الصلاة والسلام : ( إن السفر قطعة من العذاب ) ( إن السفر قطعة من العذاب ) ومعلوم أن المسافر ما هو بيجلد ولا تقطع يده ولا رجله وإنما يكون مهتمًا متشوش البال لا يستريح إلا إذا وصل مقره، وهذا اختيار شيخ الإسلام ابن تيمية وابن القيم وهو أحسن الوجوه عندي لأنه يحصل به الجمع بين الآية الكريمة وبين هذا الحديث الثابت عن النبي صلى الله عليه وسلم : فإنه يعذب بما نيح عليه أي : يعذب بمعنى أنه لا يعاقب عقوبة، ولكن يتألم ويهتم بهذا الأمر وهذا ليس ببعيد وحينئذ لا يكون مخالفًا للآية.
نستفيد من قصة عائشة فائدة عظيمة بالنسبة للأحاديث وهي أن الأحاديث التي تخالف ظاهر القرآن لا ينبغي لنا أن نقبلها حتى نتثبت تثبتًا كاملًا، لأنها رضي الله عنها ردته على طول حكمت بوهم الراوي نعم، ومعلوم أنه لو جاءنا شيء يخالف القرآن ولم يمكن الجمع بينه وبين القرآن فلا شك أننا إيش ؟ نوهم الراوي لأن خطأ الإنسان لا شك أنه أقرب من خطأ القرآن القرآن ما فيه خطأ أبدًا، لكن قد يكون الخطأ في الأفهام بحيث لا نستطيع الجمع بينه وبين النصوص الأخرى التي جاءت بها السنة أو يكون الوهم من الراوي، والوهم من الراوي أمر محتمل ولا أحد يستبعد الوهم، لكن إذا رأيتم شيء من الأحاديث يخالف القرآن في ظاهره أو يخالف الأحاديث الصحيحة المتلقاة بالقبول من أهل العلم فلا تتسرعوا في الحكم عليه بالتصحيح ولو كان ظاهر سنده الصحة حتى تتأكدوا لأنه لا بد إذا كان يخالفها ولا يمكن الجمع لا بد فيه من علة .